الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ومن وهب هبة مقسومة لذي رحم محرم ، وسلمها إليه ; فليس له أن يرجع فيها ، وإن وهبها لأجنبي ، أو لذي [ ص: 53 ] رحم ليس بمحرم فله أن يرجع فيها ، وهما فصلان ، أحدهما : إذا وهب لأجنبي شيئا ، فله أن يرجع في الهبة عندنا - ما لم يعوض منها في الحكم - وإن كان لا يستحب له ذلك بطريق الديانة ، وعند الشافعي ليس له أن يرجع فيها ; لقوله : { عليه الصلاة والسلام لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده } ، وفي رواية قال : لا يحل ، فقد نفى الرجوع أو حرم ، ولا يجوز الإقدام على ارتكاب الحرام شرعا ، وقال عليه الصلاة والسلام { : العائد في هبته كالعائد في قيئه } ، وفي رواية : { كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه } ، والعود في القيء حرام ، فكذلك الرجوع في الهبة ، والمعنى فيه أن : الهبة عقد تمليك فمطلقه لا يقتضي الرجوع فيه كالبيع ; وهذا لأن الرجوع يضاد المقصود بالتمليك ، والعقد لا ينعقد موجبا ما يضاد المقصود به ، وإنما يثبت حق الرجوع قبل تمامه كما فيما بين الوالد والولد باعتبار أن الولد كسبه - على ما نبينه - أو أنه بعضه ، فلا يتم إخراجه عن ملكه لما جعلها محرزة ، وهذا لا يوجد فيما بين الأجانب ، وهو معنى قولهم ليس بين الواهب والموهوب له حزونة ، فلا يرجع أحدهما فيما يهب لصاحبه كالأخوين ، وحجتنا في ذلك : حديث علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { قال الواهب أحق بهبته - ما لم يثب } منها - .

والمراد : حق الرجوع بعد التسليم ; لأنها لا تكون هبة حقيقية قبل التسليم ، وإضافتها إلى الواهب على معنى أنها كانت له كالرجل يقول : أكلنا خبز فلان الخباز ، وإن كان قد اشتراه منه ; ولأنه مد هذا الحق إلى وصول العوض إليه ، وذلك في حق الرجوع بعد التسليم ، وفي قوله تعالى : { فحيوا بأحسن منها أو ردوها } ما يدل على ذلك ، وقد بينا أن المراد بالتحية : العطية ، قال القائل :

تحيتهم بيض الولائد بينهم

يريد عطاياهم . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : عليه الصلاة والسلام { من وهب هبة ، ثم أراد أن يرجع فيها فليوقف وليعرف قبح فعله } . وفي رواية : حسن فعله فإن أبى يرد عليه ، والمراد : حسن فعله في الهبة ، وقبح فعله في الرجوع ( وعن ) فضالة بن عبيد أن رجلين اختصما إليه فقال أحدهما : إني وهبت لهذا بازيا ; ليثيبني ولم يثبني ، فأنا أرجع فيه . فقال فضالة : لا يرجع في الهبة إلا النساء والشرار من الناس ; اردد ( وعن ) أبي الدرداء رضي الله عنه قال : الواهبون ثلاثة : رجل وهب على وجه الصدقة ، فليس له أن يرجع فيها ، ورجل استوهب فوهب ، فله أن يرجع فيها - ما لم يعوض - ورجل وهب بشرط العوض فهي دين له في حياته ، وبعد موته ، والمعنى فيه : أنه يمكن الخلل في المقصود بالعقد ، فيتمكن العاقد من الفسخ كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبا . وبيان ذلك : أن المقصود من الهبة للأجانب العوض والمكافأة ، والمرجع [ ص: 54 ] في ذلك إلى العرف . والعادة الظاهرة أن الإنسان يهدي إلى من فوقه ; ليصونه بجاهه ، وإلى من دونه ; ليخدمه ، وإلى من يساويه ; ليعوضه ، وإليه أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله لوفد ثقيف لما أتوه بشيء أصدقة أم هبة ؟ .

فالصدقة يبتغى بها وجه الله - تعالى - والهبة يبتغى فيها وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقضاء الحاجة . ومنه يقال : للأيادي قروض ، وقال القائل

: وإذا جوزيت قرضا فاجزه     إنما يجزي الفتى ليس الحمل

وبهذا يتبين أن حق الرجوع ليس بمقتضى العقد عندنا ، بل لتمكن الخلل في المقصود بالعقد على معنى أن المعروف كالمشروط ، ولا يقال : إنما يقصد العوض بالتجارات ، فأما المقصود بالهبة : إظهار الجود والسخاء ، والتودد والتحبب ، وقد حصل ذلك ; وهذا لأن العوض في التجارات مشروط ، وفي التبرعات مقصود ، ومعنى إظهار الجود أيضا مقصود ، فإنما يمكن الخلل في بعض المقصود ، وذلك يكفي للفسخ مع أن إظهار الجود مقصود كريم الخلق ، ولهذا يقول : الراجع في الهبة لا يكون كريم الخلق فأما مقصود طيبة النفس العوض ، ومعنى التودد إنما يحصل بالعوض - كما قال : عليه الصلاة والسلام { تهادوا تحابوا } . فإن التفاعل يقتضي ، وجود الفعل من الجانبين كالمفاعلة فأما الحديث فالمراد به أن لا ينفرد بالرجوع من غير قضاء ولا رضا . إلا الوالد إذا احتاج إلى ذلك فينفرد بالأخذ لحاجته ، وسمي ذلك رجوعا باعتبار الظاهر ، وإن لم يكن رجوعا في الحكم . كما روي { أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله ثم رأى ذلك الفرس يباع فأراد أن يشتريه فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : لا تعد في صدقتك } .

والشراء لا يكون رجوعا في الصدقة حكما ، والمراد : لا يحل الرجوع بطريق الديانة والمروءة ، وهو كقوله : عليه الصلاة والسلام { لا يحل لرجل يؤمن بالله ، واليوم الآخر أن يبيت شبعان ، وجاره إلى جنبه طاو . أي : } لا يليق ذلك بالديانة والمروءة ، وإن كان جائزا في الحكم إذا لم يكن عليه حق واجب ، والمراد بالحديث الآخر : التنبيه في معنى الاستقباح ، والاستقذار ; ألا ترى أنه : شبه بعود الكلب في قيئه ، وفعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة ، وبه نقول ، وأنه يستقبح ، وقد بينا الفرق بين هذا ، وبين الأخوين ، والزوجين لحصول ما هو المقصود هناك ، وتمكن الخلل فيما هو المقصود هنا ; ولهذا يحتاج إلى القضاء ، أو الرضا في الرجوع ; لأنه بمنزلة الرد بالعيب بعد القبض من حيث إن السبب تمكن الخلل في المقصود ، فلا يتم إلا بقضاء ، أو رضا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية