الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 5097 ) مسألة ; قال : ( الفقراء ، وهم الزمنى ، والمكافيف الذين لا حرفة لهم ، والحرفة الصناعة ، ولا يملكون خمسين درهما ، ولا قيمتها من الذهب . والمساكين ، وهم السؤال ، وغير السؤال ، ومن لهم الحرفة ، إلا أنهم لا يملكون خمسين درهما ، ولا قيمتها من الذهب ) الفقراء والمساكين صنفان في الزكاة ، وصنف واحد في سائر الأحكام ;

                                                                                                                                            لأن كل واحد من الاسمين ينطلق عليهما ، فأما إذا جمع بين الاسمين ، وميز بين المسميين تميزا ، وكلاهما يشعر بالحاجة والفاقة وعدم الغنى ، إلا أن الفقير أشد حاجة من المسكين ، من قبل أن الله تعالى بدأ به ، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم . وبهذا قال الشافعي . والأصمعي . وذهب أبو حنيفة إلى أن المسكين أشد حاجة . وبه قال الفراء ، وثعلب ، وابن قتيبة ، لقول الله تعالى : { أو مسكينا ذا متربة } . وهو المطروح على التراب لشدة حاجته ، وأنشدوا :

                                                                                                                                            أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

                                                                                                                                            فأخبر أن الفقير حلوبته وفق عياله .

                                                                                                                                            ولنا أن الله تعالى بدأ بالفقراء ، فيدل على أنهم أهم ، وقال تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } . فأخبر أن المساكين لهم سفينة يعملون بها . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين . وكان يستعيذ من الفقر ، } ولا يجوز أن يسأل الله تعالى شدة الحاجة ، ويستعيذ من حالة أصلح منها . ولأن الفقر مشتق من فقر الظهر ، فعيل بمعنى مفعول ، أي مفقود ، وهو الذي نزعت فقرة ظهره ، فانقطع صلبه .

                                                                                                                                            قال الشاعر :

                                                                                                                                            لما رأى لبد النسور تطايرت     رفع القوادم كالفقير الأعزل

                                                                                                                                            أي لم يطق الطيران ، كالذي انقطع صلبه . والمسكين مفعيل من السكون ، وهو الذي أسكنته الحاجة ، ومن كسر صلبه أشد حالا من الساكن . فأما الآية فهي حجة لنا ، فإن نعت الله تعالى للمسكين بكونه ذا متربة ، يدل على أن هذا النعت لا يستحقه بإطلاق اسم المسكنة ، كما يقال : ثوب ذو علم . ويجوز التعبير بالمسكين عن الفقير ، بقرينة وبغير قرينة ، والشعر أيضا حجة لنا ، فإنه أخبر أن الذي كانت حلوبته وفق العيال ، لم يترك له سبد ، فصار [ ص: 324 ] فقيرا لا شيء له .

                                                                                                                                            إذا تقرر هذا ، فالفقير الذي لا يقدر على كسب ما يقع موقعا من كفايته ، ولا له من الأجرة أو من المال الدائم ما يقع موقعا من كفايته ، ولا له خمسون درهما ، ولا قيمتها من الذهب ، مثل الزمنى والمكافيف وهم العميان ، سموا بذلك لكف أبصارهم ; لأن هؤلاء في الغالب لا يقدرون على اكتساب ما يقع موقعا من كفايتهم ، وربما لا يقدرون على شيء أصلا ، قال الله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } . ومعنى قولهم : يقع موقعا من كفايتهم

                                                                                                                                            أنه يحصل به معظم الكفاية ، أو نصف الكفاية مثل من يكفيه عشرة فيحصل له من مكسبه أو غيره خمسة فما زاد ، والذي لا يحصل له إلا ما لا يقع موقعا من كفايته ، كالذي لا يحصل له إلا ثلاثة أو دونها ، فهذا هو الفقير ، والأول هو المسكين ، فيعطى كل واحد منهما ما يتم به كفايته ، وتنسد به حاجته ; لأن المقصود دفعها وإغناء صاحبها ، ولا يحصل إلا بذلك . والذي يسأل ، ويحصل الكفاية أو معظمها من مسألته ، فهو من المساكين ، لكنه يعطى جميع كفايته ، ويغنى عن السؤال . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ، ولا يفطن له فيتصدق عليه } .

                                                                                                                                            قلنا ، هذا تجوز ، وإنما نفي المسكنة عنه مع وجودها فيه حقيقة ، مبالغة في إثباتها في الذي لا يسأل الناس ، كما قال عليه السلام : { ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب } . وقال : { ما تعدون الرقوب فيكم ؟ . قالوا : الذي لا يعيش له ولد . قال : لا ، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئا } . وقال : { ما تعدون المفلس فيكم ؟ . قالوا : الذي لا درهم له ولا متاع . قال : لا ، ولكن المفلس الذي يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، ويأتي وقد ظلم هذا ، ولطم هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، حتى إذا نفدت حسناته ، أخذ من سيئاتهم ، فطرحت عليه ، ثم يصك له صك إلى النار } .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية