الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1021 106 - حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد تقدموا غير مرة، وعبد الوارث بن سعيد ، وأيوب السختياني .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه البخاري أيضا في التفسير، عن أبي معمر .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي في الصلاة، عن هارون بن عبد الله البزار ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبيه به، وقال : حسن صحيح.

                                                                                                                                                                                  قوله " سجد بالنجم " زاد الطبراني في " الأوسط " من هذا الوجه : بمكة . ويستفاد من ذلك أن قصة ابن عباس وابن مسعود متحدة.

                                                                                                                                                                                  قوله " وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس " قال النووي : إنه محمول على من كان حاضرا.

                                                                                                                                                                                  قلت: يعكر عليه أن الألف واللام في المسلمين والمشركين أبطلت الجمعية صارت لاستغراق الجنس، وكذلك الألف واللام في الجن والإنس للاستغراق، فيشمل الحاضر والغائب حتى روى البزار ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنده سورة النجم، فلما بلغ السجدة سجد، وسجدنا معه، وسجدت الدواة والقلم . وإسناده صحيح، وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة : سجد النبي صلى الله عليه وسلم بآخر النجم، والجن، والإنس، والشجر .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : من أين علم الراوي أن الجن سجدوا ؟ قلت : قال الكرماني : إما بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم له، وإما بإزالة الله تعالى الحجاب.

                                                                                                                                                                                  قلت : قال شيخنا زين الدين : الظاهر أن الحديث من مراسيل ابن عباس عن الصحابة، فإنه لم يشهد تلك القصة خصوصا، إن كانت قبل فرض الصلاة كما تقدم في حديث مخرمة ، ومراسيل الصحابة مقبولة على الصحيح، والظاهر أن ابن عباس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يحدث به، وقال الكرماني : لفظ الإنس مكرر، بل لفظ الجن أيضا ; لأنه إجمال بعد تفصيل نحو : تلك عشرة كاملة

                                                                                                                                                                                  وقال أيضا : فإن قلت : لم سجد المشركون، وهم لا يعتقدون القرآن ؟ قلت : قيل : لأنهم سمعوا أسماء أصنامهم حيث قال أفرأيتم اللات والعزى قال القاضي عياض : كان سبب سجودهم فيما قال ابن مسعود - أنها أول سجدة نزلت.

                                                                                                                                                                                  قلت : استشكل هذا بأن "اقرأ باسم ربك" أول السور نزولا، وفيها أيضا سجدة، فهي سابقة على النجم، وأجيب بأن السابق من "اقرأ" أولها، وأما بقيتها فنزلت بعد ذلك بدليل قصة أبي جهل في نهيه للنبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، أو المراد أول سورة استعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجم، وهكذا رواه ابن مردويه في تفسيره.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 102 ] ذكر ما يستنبط منه :

                                                                                                                                                                                  احتج بهذا الحديث أبو حنيفة ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وعبد الله بن وهب ، وابن حبيب المالكي على أن سورة النجم فيها سجدة ، وقال سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعكرمة ، وطاوس ، ومالك : ليس في سورة النجم سجدة، واحتجوا بحديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه الآتي في الباب الذي يلي هذا الباب، وسنذكر الجواب عند ذكره، وروي في هذا الباب عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة رواه عنه أحمد ، وقال : سجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في النجم إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة . ورجال إسناده ثقات، ومنهم أبو الدرداء أخرج حديثه الترمذي من رواية أم الدرداء عنه قال سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة منها التي في النجم ، ومنهم عبد الله بن عمر أخرجه الطبراني في " الكبير " من رواية مصعب بن ثابت ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم بمكة ، فسجد وسجد الناس معه حتى إن الرجل ليرفع إلى جبينه شيئا من الأرض فيسجد عليه، وحتى يسجد على الرجل . ومصعب بن ثابت مختلف فيه، ضعفه أحمد وابن معين ، ووثقه ابن أبي حبان ، وقال أبو حاتم : صدوق كثير الغلط، ومنهم المطلب بن أبي وداعة ، أخرج النسائي حديثه بإسناد صحيح من رواية ابنه جعفر بن المطلب عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من معه، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن يومئذ أسلم المطلب .

                                                                                                                                                                                  ومنهم عمرو بن العاص أخرج حديثه أبو داود وابن ماجه من رواية عبد الله بن نمير عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل .

                                                                                                                                                                                  ومنهم عائشة رضي الله تعالى عنها أخرج حديثها الطبراني في " الأوسط " من رواية عبد الرحمن بن بشير ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجم، فلما بلغ السجدة سجد . وعبد الرحمن بن بشير منكر الحديث.

                                                                                                                                                                                  ومنهم عمرو الجني ، أخرج حديثه الطبراني أيضا من رواية عثمان بن صالح قال : حدثني عمرو الجني قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ سورة النجم فسجد فيها .

                                                                                                                                                                                  قال شيخنا زين الدين : وعثمان بن أبي صالح شيخ البخاري لم يدرك أحدا من الصحابة، فإنه توفي سنة تسع عشرة ومائتين إلا أنه ذكر أن عمرا هذا من الجن، وقد نسبه أبو موسى في " ذيله " من الصحابة : عمرو بن طلق ، وقال الذهبي : عمرو الجني ، قيل : هو ابن طلق ، أورده أبو موسى وقال : والعجب أنهم يذكرون الجن من الصحابة، ولا يذكرون جبريل وميكائيل .

                                                                                                                                                                                  قلت : لأن الجن آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مرسل إليهم، والملائكة ينزلون بالرسالة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  ومما يستنبط منه أن رؤية الإنس للجن لا تنكر، وأنكرت المعتزلة رؤية الإنس للجن، واستدل بعضهم بقوله تعالى : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم مع قوله : إلا إبليس كان من الجن وأجاب أهل السنة بأن هذا خرج مخرج الغالب في عدم رؤية الإنس الجن أو الشياطين، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الشيطان الذي أراد أن يقطع عليه صلاته، وأنه خنقه حتى وجد برد لسانه، وأنه قال : لولا دعوة سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد .. الحديث، وثبت في الصحيح رؤية أبي هريرة له لما دخل ليسرق تمر الصدقة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : تدري من تخاطب منذ ثلاث ؟ وقال فيه : صدقك وهو كذوب. لكن أبا هريرة رآه في صورة مسكين على هيئة الإنس، وهو دال على أن الشياطين والجن يتشكلون في غير صورهم كما تتشكل الملائكة في هيئة الآدميين، وقد نص الله في كتابه على عمل الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام ومخاطبتهم له في قوله تعالى : قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل الآية، ومثل هذا لا ينكر مع تصريح القرآن بذلك، وثبوت الأحاديث الصحيحة.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية