الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فطفق مسحا بالسوق والأعناق ) أي فجعل سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها ، قال الأكثرون معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها أي قطعها ، قالوا إنه عليه السلام لما فاتته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى الله تعالى ، وعندي أن هذا أيضا بعيد ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه لو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله : ( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ) [المائدة : 6] قطعها ، وهذا مما لا يقوله عاقل ، بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق ، أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم البتة من المسح العقر والذبح .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : القائلون بهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة .

                                                                                                                                                                                                                                            فأولها : ترك الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة ، وقال صلى الله عليه وسلم : حب الدنيا رأس كل خطيئة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : [ ص: 180 ] أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : ( ردوها علي ) وهذه كلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله " ، فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله : ( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : اصبر يا محمد على سفاهتهم ( واذكر عبدنا داود ) وذكر قصة داود ، ثم ذكر عقبيهما قصة سليمان ، وكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد عليه السلام : اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان ، وهذا الكلام إنما يكون لائقا لو قلنا : إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة ، وصبر على طاعة الله ، وأعرض عن الشهوات واللذات ، فأما لو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر هذه القصة لائقا بهذا الموضع ، فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على هذه الأقوال الفاسدة بالرد والإفساد والإبطال ، بل التفسير المطابق للحق لألفاظ القرآن ، والصواب أن نقول : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه ، وهو المراد من قوله ( عن ذكر ربي ) ، ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ، ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ، والغرض من ذلك المسح أمور .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : تشريفا لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض ، فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا ، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات ، وأقول : أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها ، وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة ، فإن قيل : فالجمهور فسروا الآية بذلك الوجه ، فما قولك فيه ؟ فنقول لنا ههنا مقامان :

                                                                                                                                                                                                                                            المقام الأول : أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها ، وقد ظهر والحمد لله أن الأمر كما ذكرناه ، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            المقام الثاني : أن يقال هب أن لفظ الآية لا يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس ، فما قولك فيه ؟ وجوابنا : أن الدلالة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات ، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية ، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالى بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية