الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4762 [ 2558 ] وعنه ؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة .

                                                                                              رواه أحمد ( 4 \ 408 )، والبخاري (2101)، ومسلم (2628).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " إنما مثل جليس الصالح وجليس السوء ") كذا وقع في بعض النسخ ، وهو من باب إضافة الشيء إلى صفته ، ووقع في بعضها : " الجليس الصالح والجليس السوء " وهو الأفصح والأحسن ، ثم قال بعد هذا : " كحامل [ ص: 634 ] المسك ونافخ الكير " هذا نحو مما يسميه أهل الأدب لف الخبرين ، وهو نحو قول امرئ القيس :


                                                                                              كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي

                                                                                              فكأنه قال : قلوب الطير رطبا العناب ، ويابسا الحشف ، ومقصود هذا التمثيل الحض على صحبة العلماء والفضلاء وأهل الدين ، وهو الذي يزيدك نطقه علما وفعله أدبا ونظره خشية ، والزجر عن مخالطة من هو على نقيض ذلك .

                                                                                              و (قوله : " فحامل المسك إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ") تطابقت الأخبار واستفاضت على أن المسك يجتمع في غدة حيوان ، هو الغزال ، أو يشبهه ، فيتعفن في تلك الغدة ، حتى تيبس وتسقط ، فتؤخذ تلك الغدة كالجليدات المحشوة ، وتلك الجلدة هي المسماة بفأرة المسك ، والجمهور من علماء الخلف والسلف على طهارة المسك وفأرته ، وعلى ذلك يدل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له وثناؤه عليه ، وإجازة بيعه ، كما دل عليه هذا الحديث ، ومن المعلوم بالعادة المستمرة بين العرب والعجم استعماله واستطابة ريحه ، واستحسانه في الجاهلية والإسلام ، ولا يستقذره أحد من العقلاء ولا ينهى عن استعماله أحد من العلماء ، حتى قال القاضي أبو الفضل : نقل بعض أئمتنا الإجماع على طهارته ، غير أنه قد ذكر عن العمرين كراهيته ، ولا يصح ذلك ، فإن عمر رضي الله عنه قد قسم ما غنم منه بالمدينة ، وقال أبو عبد الله المازري : وقال قوم بنجاسته ، ولم يعينهم . والصحيح القول [ ص: 635 ] بطهارته ، وإن لم يكن مجمعا عليه ؛ للأحاديث الصحيحة ، الدالة على ذلك ؛ إذ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يستعمله ، حتى إنه كان يخرج ، ووبيص المسك في مفرقه ، كما قالت عائشة -رضي الله عنها - وقد تقدم قوله : " أطيب الطيب المسك " ، وغير ذلك . وقد قلنا : إن أهل الأعصار الكريمة مطبقون على استطابته واستعماله ؛ فإن قيل : كيف لا يكون نجسا وقد قلتم : إنه دم ، والدم نجس في أصله بالإجماع ، وإنما يعفى عن اليسير منه لتعذر التحرز منه على ما هو مفصل في الفقه ؟ فالجواب : إنا وإن سلمنا أن أصل المسك الدم ، فلا نسلم أنه بقي على أصل الدموية ، فإن الدم إذا تعفن تغير لونه ورائحته إلى ما يستقذر ويستخبث ، فاستحال إلى فساد ، وليس كذلك المسك ؛ فإنه قد استحال إلى صلاح يستطاب ويستحسن ، ويفضل على أنواع كل الطيب ، وهذا كاستحالة الدم لبنا وبيضا ، وإن شئت حررت فيه قياسا فقهيا فقلت : مائع له مقر يستحيل فيه إلى صلاح ، ويكون طاهرا كاللبن والبيض . وتكميل هذا القياس في مسائل الخلاف .

                                                                                              و (قوله : " إما أن يحذيك ") هو بضم الياء رباعيا من : أحذيته : إذا أعطيته ، وفي الصحاح : أحذيته نعلا : إذا أعطيته نعلا ، تقول منه : استحذيته فأحذاني ، وأحذيته من الغنيمة : إذا أعطيته منها ، والاسم : الحذيا . والكير : منفخ الحداد . والكور : المبنى الذي ينفخ فيه على النار والحديد . ويجوز أن يعبر بالكير عن الكور .




                                                                                              الخدمات العلمية