الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      255 حدثنا محمد بن عوف قال قرأت في أصل إسمعيل بن عياش قال ابن عوف و حدثنا محمد بن إسمعيل عن أبيه حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد قال أفتاني جبير بن نفير عن الغسل من الجنابة أن ثوبان حدثهم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( قال قرأت في أصل إسماعيل بن عياش ) : أي في كتابه وإسماعيل بن عياش وثقه أحمد وابن معين ودحيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام وضعفوه في الحجازيين ( وأخبرنا محمد بن إسماعيل عن أبيه ) : إسماعيل بن عياش قال في التقريب : إنما عابوا عليه أي محمد بن إسماعيل بن عياش أنه حدث عن أبيه بغير سماع . والحاصل أن ابن عوف روى هذا الحديث أولا عن صحيفة إسماعيل بن عياش بغير سماع وأجازه منه ثم رواه عن ابنه محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه إسماعيل ، وعلى كل حال فالحديث ليس بمتصل الإسناد لأن ابن عوف ومحمد بن إسماعيل كلاهما لم يسمع من إسماعيل بن [ ص: 333 ] عياش ( حدثهم ) : أي جبير وغيره ممن يروي عن ثوبان ( عن ذلك ) : أي عن صفة غسل الجنابة ( أما الرجل فلينشر رأسه ) : بالشين المعجمة من النشر هكذا في عامة النسخ أي ليفرق يقال : جاء القوم نشرا أي منتشرين متفرقين ( حتى يبلغ ) : الماء ( أصول الشعر ) : ولا يحصل بلوغ الماء إلى أصول الشعر إلا بالنقض إن كان ضفيرا وإن لم يكن ضفيرا فبانتشار وتفرقة للشعر وهذا الحكم للرجال ( وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه ) : لا نافية أي لا ضرر على المرأة في ترك نقض شعرها . وقيل زائدة فالمعنى لا واجب على المرأة أن تنقض شعرها ( لتغرف ) : أمر للمؤنث الغائب وهذه جملة مستأنفة ( على رأسها ثلاث غرفات ) : جمع غرفة بفتح الغين مصدر للمرة من غرف إذا أخذ الماء بالكف قاله الطيبي . وفي بعض الشروح غرفة بفتح الغين مصدر وبضم الغين المغروف أي ملء الكف وغرف بالضم جمع غرفة بالضم . قال المنذري : في إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش وأبوه وفيهما مقال . انتهى . قال ابن القيم هذا الحديث رواه أبو داود من حديث إسماعيل بن عياش وهذا إسناد شامي وحديثه عن الشاميين صحيح . انتهى .

                                                                      واعلم أنه اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى في نقض المرأة ضفر رأسها على أربعة أقوال :

                                                                      الأول : لا يجب النقض في غسل الحيض والجنابة كليهما إذا وصل الماء إلى جميع شعرها ظاهره وباطنه ، حتى يبلغ الماء إلى داخل الشعر المسترسل ، وإلى أصول الشعر وإلى جلد الرأس ، وهذا مذهب الجمهور واستدلالهم بحديث علي من ترك موضع شعرة من جنابة الحديث ، وبحديث أم سلمة من طريق أسامة بن زيد عن المقبري عنها ، وفيه : واغمزي قرونك عند كل حفنة . والغمز هو التحريك بشدة ، وبحديث عائشة في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الأئمة الستة إلا ابن ماجه ، وفيه يدخل يديه في الإناء فيخلل شعره حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة أو أنقى البشرة ، ولمسلم : ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر . وللترمذي والنسائي ثم يشربه الماء ، وبحديث عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض وفيه : فتدلك حتى تبلغ شؤون رأسها أخرجه مسلم والمؤلف ، وبغير ذلك من الأحاديث التي تدل بظاهرها على دعواهم .

                                                                      [ ص: 334 ] الثاني : أنها تنقضه بكل حال وهو قول إبراهيم النخعي . قال ابن العربي : ووجه قوله وجوب عموم الغسل ولم ير ما ورد من النبي صلى الله عليه وسلم من الرخصة ولو رآه ما تعداه إن شاء الله تعالى .

                                                                      الثالث : وجوب النقض في الحيض دون الجنابة وهو قول الحسن وطاوس وأحمد بن حنبل ، واحتجاجهم بحديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اغتسلت المرأة من حيضتها نقضت شعرها نقضا وغسلته بخطمي وأشنان ، فإذا اغتسلت من الجنابة صبت على رأسها الماء وعصرته أخرجه الدارقطني في الأفراد والبيهقي في سننه الكبرى والطبراني في معجمه الكبير .

                                                                      قلت : قال في السيل الجرار في إسناده مسلم بن صبيح اليحمدي وهو مجهول وهو غير أبي الضحى مسلم بن صبيح المعروف فإنه أخرجه الجماعة كلهم . وأيضا إقرانه بالغسل الخطمي وأشنانا يدل على عدم الوجوب ، فإنه لم يقل أحد بوجوب الخطمي ولا الأشنان انتهى ، وبحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضا : انقضي شعرك واغتسلي . رواه الأئمة الستة ، وهذا لفظ ابن ماجه ، وفي رواية البخاري : فزعمت أنها حاضت ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة فقالت يا رسول الله هذه ليلة عرفة وإنما كنت تمتعت بعمرة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك . الحديث .

                                                                      قلت : أجيب بأن الخبر ورد في مندوبات الإحرام والغسل في تلك الحال للتنظيف لا للصلاة والنزاع في غسل الصلاة ذكره الشوكاني في نيل الأوطار . وقال في السيل الجرار : واختصاص هذا بالحج لا يقتضي ثبوته في غيره ولا سيما وللحج مدخلة في مزيد التصييف ثم اقترانه بالامتشاط الذي لم يوجبه أحد يدل على عدم وجوبه انتهى .

                                                                      الرابع : لا يجب النقض على النساء وإن لم يصل الماء إلى داخل بعض شعرها المضفور ويجب على الرجل إذا لم يصل الماء إلى جميع شعره ظاهره وباطنه من غير نقض ، وهذا المذهب الرابع هو القوي من حيث الرواية والدراية فإنك تعلم أن النصوص الصحيحة قد دلت وقام الإجماع على أن عموم الغسل يجب في جميع الأجزاء من شعر وبشر حتى لا يتم الغسل إن بقي موضع يسير غير مغسول ، وهذا الحكم بعمومه يشمل الرجال والنساء لأن النساء شقائق الرجال ، لكن رخص الشارع للنساء في ترك نقض ضفر رءوسهن ، يدل عليه حديث أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني [ ص: 335 ] امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه ؟ قال لا إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حفنات وكذا قول عائشة : عجبا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن الحديث ، وكذا حديث ثوبان المتقدم . وإنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء لترداد حاجتهن وأجل مشقتهن في نقض شعورهن المضفورة ، فحكم الرجال في ذلك مغاير للنساء فإذا لم يبل الرجال جميع شعورهم ظاهرها وباطنها لا يتم غسلهم ، بخلاف النساء فإنهن إذا صببن على رءوسهن ثلاث حثيات تم غسلهن وإن لم يصل الماء إلى داخل بعض شعورهن المضفورة . وأما الضفر للرجال فكان أقل القليل ونادرا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة فلذا ما دعت حاجتهم لسؤاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما اضطروا لإظهار مشقتهم لديه فلم يرخص لهم في ذلك وبقي لهم حكم تعميم غسل الرأس على وجوبه الأصلي . وأما الجواب عن حديث عائشة أن أسماء بنت شكل سألت النبي صلى الله عليه وسلم وفيه فتدلكه دلكا شديدا حتى يبلغ الماء أصول شعرها فمن وجهين : الأول أن هذا الحديث أخرجه الشيخان من طريق منصور بن صفية عن أمه عن عائشة ولم يذكر منصور هذه الجملة وإنما أتى بها إبراهيم بن المهاجر وهو ليس بقوي ، وأخرجه مسلم في المتابعات . والثاني أنه يحمل حديث أم سلمة على الرخصة وحديث أسماء بنت شكل على العزيمة ، فلا منافاة والله تعالى أعلم . والبسط في غاية المقصود .




                                                                      الخدمات العلمية