الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والفاء في قوله تعالى: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة (فاصبر) وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف هذه الجملة على إخبار الكفار في الآخرة وقال: المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل: هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه، ( ومن ) بيانية كما في فاجتنبوا الرجس من الأوثان والجار والمجرور في موضع الحال من ( الرسل ) فيكون أولو العزم صفة جميعهم، وإليه ذهب ابن زيد والجبائي وجماعة أي فاصبر كما صبر الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها. وعن عطاء الخراساني والحسن بن الفضل والكلبي ومقاتل وقتادة وأبي العالية وابن جريج ، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن ( من ) للتبعيض فأولو العزم بعض الرسل عليهم السلام، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال، فقال الحسن بن الفضل: ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم: فبهداهم اقتده وقيل: تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلا. وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار. والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد [ ص: 35 ] به من الذبح. ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده. ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء وموسى عليه السلام قال له قومه: إنا لمدركون فقال: إن معي ربي سيهدين وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقيل: سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام، وقيل: ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال: هم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب. وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى عليهم السلام وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال. وقول الجلال السيوطي: إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال:


                                                                                                                                                                                                                                      أولو العزم نوح والخليل الممجد وموسى وعيسى والحبيب محمد



                                                                                                                                                                                                                                      مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسي نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلى الله تعالى عليهم وسلم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك، وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ ، والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح وإبراهيم وهود ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابع لهم، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولو العزم بعد مختصا بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الإطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل: فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقا كما صبر إخوانك الرسل قبلك ولا تستعجل لهم أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون من العذاب لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة يسيرة من نهار لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته. وقرأ أبي (من النهار) وقوله تعالى: بلاغ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة. وأيد تفسير بلاغ بتبليغ بقراءة أبي مجلز وأبي سراج الهذلي (بلغ) بصيغة الأمر له صلى الله تعالى عليه وسلم، وبقراءة أبي مجلز أيضا في رواية (بلغ) بصيغة الماضي من التفعيل، واستظهر أبو حيان كون الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل: تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى: متاع قليل وقال أبو مجلز: ( بلاغ ) مبتدأ خبره قوله تعالى: ( لهم ) السابق فيوقف على ولا تستعجل ويبتدأ بقوله تعالى: ( لهم ) وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب وهو ضعيف جدا لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق ( لهم ) بتستعجل. وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى (بلاغا) بالنصب بتقدير بلغ بلاغا أو بلغنا بلاغا أو نحو ذلك. وقرأ الحسن أيضا (بلاغ) بالجر على أنه نعت لنهار.

                                                                                                                                                                                                                                      فهل يهلك إلا القوم الفاسقون الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة، وفي الآية من الوعيد والإنذار [ ص: 36 ] ما فيها. وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه ( يهلك ) بفتح الياء وكسر اللام. وعنه أيضا ( يهلك ) بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة، وقال أبو الفتح: هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت (نهلك) بنون العظمة من الإهلاك ( القوم الفاسقين ) بالنصب، وهذه الآية أعني قوله تعالى: كأنهم إلى الآخر جاء في بعض الآثار ما يشعر بأن لها خاصية من بين آي هذه السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين).

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية