الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبين كلام السلف والأئمة في هذا الموضع، كالإمام أحمد وغيره، وكلام النظار الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وغيره، وأن القائل إذا قال: عبدت الله، ودعوت الله، وقال: الله خالق كل شيء، ونحو ذلك، فاسمه تعالى يتناول الذات والصفات، ليست الصفات خارجة عن مسمى اسمه، ولا زائدة على ذلك، بل هي داخلة في مسمى اسمه، ولهذا قال أحمد فيما صنفه في الرد على الجهمية نفاة الصفات: "قالوا: إذا قلتم الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، قلتم بقول النصارى. فقال: لا نقول: الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، ولكن الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد" فبين أحمد أنا لا نعطف صفاته على مسمى اسمه العطف المشعر بالمغايرة، بل ننطق بما يبين أن صفاته داخلة في مسمى اسمه. [ ص: 24 ]

ولما ناظره الجهمية في محنته المشهورة، فقال له عبد الرحمن بن إسحاق القاضي: ما تقول في القرآن: أهو الله، أم غير الله؟ يعني إن قلت: "هو الله" فهذا باطل، وإن قلت: "غير الله" فما كان غير الله فهو مخلوق.

فأجابه أحمد بالمعارضة بالعلم، فقال: ما تقول في علم الله: أهو الله، أم غير الله؟ فقال: أقول في كلامه ما أقوله في علمه وسائر صفاته، وبين ذلك في رده على الجهمية: بأنا لا نطلق لفظ الغير نفيا ولا إثباتا، إذ كان لفظا مجملا، يراد بغير الشيء ما باينه، وصارت مفارقته له، ويراد بغيره، ما أمكن تصوره بدون تصوره، ويراد به غير ذلك.

وعلم الله وكلامه ليس غير الذات بالمعنى الأول، وهو غيرها بالمعنى الثاني، ولكن كونه ليس غير الله بالمعنى الأول فعلى إطلاقه، وأما كونه غير الله بالمعنى الثاني ففيه تفصيل، فإن أريد بتصوره معرفته المعرفة الواجبة الممكنة في حق العبد فلا يعرفه هذه [ ص: 25 ] المعرفة من لم يعرف أنه حي عليم قادر متكلم، فلا يمكن تصوره ومعرفته بدون صفاته، فلا تكون مغايرة لمسمى اسمه، وإن أريد أصل التصور، وهو الشعور به من بعض الوجوه، فقد يشعر به من لا يخطر له حينئذ أنه حي ولا عليم ولا متكلم، فتكون صفاته مغايرة له بالاعتبار الثاني.

وأجاب أحمد أيضا بأن الله لم يسم كلامه غيرا، ولا قال: إنه ليس بغير، يعني: والقائل إذا قال: ما كان غير الله أو سوى الله فهو مخلوق، فإن احتج على ذلك بالسمع فلا بد أن يكون مندرجا هذا اللفظ في كلام الشارع، وليس كذلك، وإن احتج بالعقل، فالعقل إنما يدل على خلق الأمور المباينة له، وأما صفاته القائمة بذاته فليست مخلوقة، والذين يجعلون كلامه مخلوقا يقولون: هو بائن عنه، والعقل يعلم أن كلام المتكلم ليس ببائن عنه.

وبهذا التفصيل يظهر أيضا الخلل فيما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية، بأن الذاتية لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديرها، بخلاف المعنوية، فإنه يقال لهم: ما تعنون بتقدير الذات في الذهن، أو تصور الذات، أو نحو ذلك من الألفاظ؟ أتعنون به أصل الشعور والتصور والمعرفة ولو من بعض الوجوه، أم تريدون به التصور والمعرفة والشعور الواجب أو الممكن أو التام؟ فإن عنيتم الأول فما من [ ص: 26 ] صفة تذكر إلا يمكن أن يشعر الإنسان بالذات مع عدم شعوره بها. وقد يذكر العبد ربه ولا يخطر له حينئذ كونه قديما أزليا، ولا باقيا أبديا، ولا واجب الوجود بنفسه، ولا قائما بنفسه، ولا غير ذلك. وكذلك قد يخطر له ما يشاهده من الأجسام ولا يخطر له كونه متحيزا أو غير متحيز.

وإن عنيتم الثاني فمعلوم أن الإنسان لا يكون عارفا بالله المعرفة الواجبة في الشرع، ولا المعرفة التي تمكن بني آدم، ولا المعرفة التامة، حتى يعلم أنه حي عليم قدير، وممتنع لمن يكون عارفا بأن الله متصف بذلك إذا خطر بباله ذاته، وهذه الصفات: أن يمكن تقدير ذاته موجودة في الخارج بدون هذه الصفات، كما يمتنع أن يقدر ذاته موجودة في الخارج بدون أن تكون قديمة واجبة الوجود قائمة بنفسها، فجميع صفاته تعالى اللازمة لذاته يمتنع مع تصور الصفة والموصوف والمعرفة بلزوم الصفة للموصوف، يمتنع أن يقدر إمكان وجود الذات بدون الصفات اللازمة لها مع العلم باللزوم، وإن قدر عدم العلم باللزوم، أو عدم خطور الصفات اللازمة بالبال، فيمكن خطور الذات بالبال بدون شيء من هذه الصفات، وإذا علم لزوم بعض الصفات دون بعض، فما علم لزومه لا يمكن تقدير وجود الذات دونه، وما لا يعلم لزومه أمكن الذهن أن يقدر وجوده دون وجود تلك الصفة التي لم يعلم لزومها، لكن هذا الإمكان معناه عدم العلم بالامتناع، لا العلم بالإمكان في الخارج، إذ كل ما لم يعلم الإنسان عدمه فهو ممكن عنده [ ص: 27 ] إمكانا ذهنيا، بمعنى عدم علمه بامتناعه، لا إمكانا خارجيا، بمعنى أنه يعلم إمكانه في الخارج.

وفرق بين العلم بالإمكان، وعدم العلم بالامتناع، وكثير من الناس يشتبه عليه هذا بهذا، فإذا تصور ما لا يعلم امتناعه، أو سئل عنه، قال: هذا ممكن، وهذا غير ممتنع، وهذا لو فرض وجوده لم يكن من فرضه محال.

التالي السابق


الخدمات العلمية