الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          واللذان يأتيانها منكم أي يأتيان الفاحشة وهي هنا الزنا في قول الجمهور ، واللواط في قول بعضهم ، وعليه أبو مسلم ، والأمر معا في قول ( الجلالين ) والمراد بالتثنية في الأول الزاني ، والزانية بطريق التغليب ، وفي الثاني الفاعل والمفعول به يجعل القابل كالفاعل وفي الثالث ، واللائط ولا تجوز فيه فآذوهما . بعد ثبوت ذلك بشهادة الأربعة كما يؤخذ من الآية الأولى . روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - تفسير الإيذاء بالتعيير والضرب بالنعال ، وعن مجاهد ، وقتادة ، والسدي تفسيره بالتعيير ، والتوبيخ فقط . فإذا كانت هذه الآية قد نزلت قبل آية سورة النور ، وكان المراد بها الزنا - كما هو قول الجمهور - فالعقاب كان تعزيرا مفوضا إلى الأمة وإلا جاز أن يراد بالإيذاء الحد المشروع نفسه ، والظاهر أن آية النور نزلت بعد هذه فهي مبينة ، ومحددة للإيذاء هنا على القول بأن ما هنا في الزنا ، وإلا فتلك خاصة بحكم الزنا ; لأنها صريحة فيه ، وهذه خاصة باللواط ، ولذلك اختلف الصحابة ، ومن بعدهم في عقاب من يأتيه ، وهذا ما اختاره أبو مسلم ، وتخصيصه الفاحشة في هذه الآية باللواط الذي هو استمتاع الرجل بالرجل ، والفاحشة فيما قبلها بالسحاق الذي هو استمتاع المرأة بالمرأة هو المناسب لجعل تلك خاصة بالنساء ، وهذه خاصة بالذكور ، فهذا مرجع لفظي يدعمه مرجع معنوي ، وهو كون القرآن عليه ناطقا بعقوبة الفواحش الثلاث ، وكون هاتين الآيتين [ ص: 359 ] محكمتين ، والإحكام أولى من النسخ حتى عند الجمهور القائلين به . وستأتي تتمة هذا البحث .

                          فإن تابا رجعا عن الفاحشة وندما على فعلها وأصلحا العمل كما هو شأن المؤمن يقبل على الطاعة بعد العصيان ليطهر نفسه ويزكيها من درنه ويقوي فيها داعية الخير على داعية الشر فأعرضوا عنهما أي كفوا عن إيذائهما بالقول والفعل إن الله كان توابا رحيما أي مبالغا في قبول التوبة من عباده شديد الرحمة بهم ، وإنما شرع العقاب لينزجر العاصي ، ولا يتمادى فيما يفسده فيهلك ، ويكون قدوة في الشر والخبث - وراجع تفسير " التواب الرحيم " في [ ص41 : ج : 2 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] .

                          وقال الأستاذ الإمام في هاتين الآيتين ما ملخصه : اختلف المفسرون في الآيتين ، فالجمهور على أنهما في الزنا خاصة ولأجل الفرار من التكرار ، قالوا : إن الآية الأولى في المحصنات أي الثيبات ، فهن اللواتي كن يحبسن في البيوت إذا زنين حتى يتوفاهن الموت ، والثانية في غير المحصنين ، والمحصنات ، أي في الأبكار ، ولهذا كان العقاب فيها أخف ، وعلى هذا يكون الزاني المحصن مسكوتا عنه ، والآيتان على هذا القول منسوختان بالحد المفروض في سورة النور ، وهو السبيل الذي جعله الله للنساء اللواتي يمسكن في البيوت ، ولكن يبقى في نظم الآية شيء ، وهو أن كلا من توفي الموت ومن جعل السبيل قد جعل غاية للإمساك في البيوت بعد وقوعه ، فعلى هذا لا يصح تفسير السبيل بإنزال حكم جديد فيهن ; إذ يكون المعنى على هذا التفسير فأمسكوهن في البيوت إلى أن يمتن أو ينزل الله فيهن حكما جديدا . وقد فسر السبيل بعضهم بالزواج كأن يسخر الله للمرأة المحبوسة رجلا آخر يتزوجها . وقد وافق الجلال الجمهور في الأولى ، وخالفهم في الثانية ، فقال : إنها في الزنا واللواط معا ، ثم رجح أنها في اللواط ، فتكون الأولى منسوخة على رأيه ، والثانية غير منسوخة . وخالف الجمهور أبو مسلم في الآيتين ، فقال : إن الأولى في المساحقات ، والثانية في اللواط ، فلا نسخ ، وحكمة حبس المساحقات على هذا القول هو أن المرأة التي تعتاد المساحقة تأبى الرجال ، وتكره قربهم - أي فلا ترضى أن تكون حرثا للنسل - فتعاقب بالإمساك في البيت ، والمنع من مخالطة أمثالها من نساء إلى أن تموت أو تتزوج .

                          أقول : والأولى أن يقال إلى أن تموت أو تكره السحاق ، وتميل إلى الرجال فتقبل على بعلها إن كانت متزوجة ، وتتزوج إن كانت أيما . قال : وفي إسناد جعل السبيل لها إلى الله - تعالى - إشارة إلى عسر النزوع عن هذه العادة الذميمة ، والشفاء منها حتى بالترك الذي هو أثر الحبس فكأنها لا تزول إلا بعناية خاصة منه - تعالى - .

                          قال : واعترض على أبي مسلم بأن تفسير الفاحشة في الآية الأولى لم يقل به أحد وبأن [ ص: 360 ] الصحابة اختلفوا في حد اللواط . فأجاب عن الأول بأن مجاهدا قال به وناهيك بمجاهد .

                          وبأنه ثبت في الأصول أنه يجوز للعالم أن يفسر القرآن ، ويفهم منه ما لم يكن مرويا عن أحد بشرط ألا يخرج بذلك عن مدلولات اللغة العربية في مفرداتها وأساليبها ، وأجاب عن الثاني بأن الصحابة إنما اختلفوا في حد اللواط ، وهذا لا يمنع كون الآية نزلت في العقوبة عليه ، وهي لا حد فيها . ومما يجاب به عن أبي مسلم أن الصحابة ما كانوا يجلسون لتفسير القرآن إلا عند الحاجة ، وإنما كانوا يتدارسونه ، ويتدبرونه للاهتداء ، والاتعاظ ، وهم يفهمونه لأنه نزل بلغتهم ، فإذا سألهم سائل عن تفسير آية ذكروا له تفسيرها يسكتون عن حكم الشيء السنين الطوال لعدم وقوعه ، فإذا وقعت الواقعة ذكروا حكمها ، فإذا جاء في القرآن حكم السحاق ، ولم نجد عندنا رواية عن الصحابة فيه ، ولا حكما منهم على امرأة بالحبس لأجله علمنا أن سبب هذا ، وذاك هو أنه لم يقع في زمنهم . ويشهد به أربعة منهم ، وإذا كان القرآن يضع عقابا على فاحشة ، أو جريمة فيمتنع عنها أهل الإيمان . فلا تقع أولا تظهر فيهم ، ولا تثبت على أحد ، فهذا مما نحمد الله - تعالى - عليه ، ونحمد المؤمنين والمؤمنات ، ولا نعده من المستحيلات فالحق أن ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين .

                          قال : وبحثوا في جمع اللاتي يأتين الفاحشة ، وتثنية اللذين يأتيانها ، وعدوه مشكلا ، وما هو بمشكل بل نكتته ظاهرة وهي أن النساء لما كن لا يجدن من العار في السحاق ما يجده الرجل في إتيان مثله كانت فاحشة السحاق مظنة الشيوع والإظهار بين النساء ، وفاحشة اللواط مظنة الإخفاء حتى لا تكاد تتجاوز اللذين يأتيانها ، ففي التعبير بصيغة المثنى إشارة إلى ذلك ، وتقدير لكون فاحشة اللواط عارا فاضحا يتبرأ منه كل ذي فطرة سليمة ، ويجوز أن يكون اختلاف التعبير بالجمع ، والتثنية من باب التنويع فذلك معهود في الكلام البليغ مع الأمن من الاشتباه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية