الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4783 (2) باب السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه

                                                                                              [ 2571 ] عن عامر بن واثلة : أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: وكيف يشقى الرجل بغير عمل؛ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؛ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؛ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؛ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر به، ولا ينقص .

                                                                                              وفي رواية قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان" .

                                                                                              وفي أخرى : "فيجعله الله ذكرا أو أنثى سويا أو غير سوي، ثم يقول: يا رب ما رزقه؛ ما أجله؛ ما خلقه؛ ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا".

                                                                                              وفي أخرى : "إن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا أذن الله لبضع وأربعين ليلة" . ثم ذكر نحو ما تقدم.

                                                                                              رواه أحمد ( 6 \ 7 )، ومسلم (2644 و 2645) (2 و 3 و 4).

                                                                                              [ 2572 ] وعن أنس بن مالك - ورفع الحديث - أنه قال: "إن الله عز وجل قد وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب ! نطفة؟ أي رب ! علقة؟ أي رب ! مضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال: قال الملك: أي رب ! ذكر أم أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه .

                                                                                              رواه أحمد ( 3 \ 148 )، ومسلم (2646).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (2) ومن باب : السعيد سعيد في بطن أمه

                                                                                              والشقي شقي في بطن أمه


                                                                                              (قوله : " الشقي شقي في بطن أمه ) يعني : أن أول مبدأ الإنسان في بطن أمه يظهر من حاله للملائكة ، أو لمن شاء الله من خلقه ما سبق في علم الله تعالى من سعادته ومن شقوته ، ورزقه وأجله وعمله ؛ إذ قد سبق كتب ذلك في اللوح المحفوظ ، كما دل عليه الكتاب والأخبار الكثيرة الصحيحة ، وكل ذلك قد سبق به العلم الأزلي ، والقضاء الإلهي الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل ، المحيط بكل الأمور على التعين والتفصيل . ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما عند الله من علم [ ص: 655 ] حال النطفة ، فتقول : يا رب ما الرزق ؛ ما الأجل ؟ فيقضي ربك ما شاء ، أي : يظهر من قضائه وحكمه للملائكة ما سبق به علمه ، وتعلقت به إرادته .

                                                                                              و (قوله : " ويكتب الملك ") يعني من اللوح المحفوظ ، كما تقدم في حديث يحيى بن أبي زائدة ، ولذلك عطف هذه الجملة على ما تقدم بالواو ، لأنها لا تقتضي رتبة ، ثم يخرج الملك بالصحيفة ، أي : يخرج من حال الغيبة عن هذا العالم إلى حال مشاهدته ، فيطلع الله تعالى بسبب تلك الصحيفة من شاء من الملائكة الموكلين بأحواله على ذلك ليقوم كل بما عليه من وظيفته حسب ما سطر في صحيفته .

                                                                                              و (قوله : " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ، أو ثلاثة وأربعون ، أو خمسة وأربعون ") هذا كله شك من الرواة ، وحاصله : أن بعث الملك المذكور في هذا الحديث ، إنما هو في الأربعين الرابعة التي هي مدة التصوير ، كما دل على ذلك ما قدمناه قبل هذا . وسمى المضغة نطفة بمبدئها ، ألا ترى قوله : " بعث الله إليها [ ص: 656 ] ملكا وصورها وخلق سمعها وبصرها ، وجلدها وعظامها " فعطف بالفاء المرتبة ، وهذا لا يكون حتى تصل النطفة إلى حال نهاية المضغة ، كما دل عليه ما تقدم . وبهذا تتفق الروايات ، ويزول الاضطراب المتوهم فيها ، والله أعلم .

                                                                                              ونسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية ، وإنما صدر عنه فعل ما في المضغة - كأن عنه التصوير والتشكيل - بقدرة الله تعالى وخلقه واختراعه . ألا ترى أن الله تعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية ، وقطع عنا نسب جميع الخليقة ، فقال : ولقد خلقناكم ثم صورناكم [الأعراف: 11] وقال : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين الآية [المؤمنون : 12 - 13] وقال : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية [الحج: 5]، وقال : وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير [التغابن: 3] وغير ذلك من الآيات . هذا مع ما دلت عليه قاطعات البراهين من أنه لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين .

                                                                                              تنبيه : هذا الترتيب العجيب ، وإن خفيت حكمته ، فقد لاحت لنا حقيقته ، وهو أنه كذلك سبق في علمه ، وثبت في قضائه وحكمه ، وإلا فمن الممكن أن يوجد الإنسان وأصناف الحيوان ، بل وجميع المخلوقات ، في أسرع من لحظة ، [ ص: 657 ] وأيسر من النطق بلفظة ، كيف لا؟ وقد سمع السامعون قوله : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل: 40].




                                                                                              الخدمات العلمية