الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين غاية البيان أنه الإله وحده بما له من الإحاطة بجميع صفات الكمال، وأنه لا بد من جمعه الخلائق ليوم الفصل للحكم بينهم بما له من الحكمة والقدرة، وحقر الهوى ونهى عن اتباعه، وكانوا هم قد عظموه بحيث جعلوه معبودا، فلزم من ذلك تحقيرهم الإله، ولم يرجعوا عن ضلالهم، تسبب عن ذلك التعجيب ممن يظن أنه يقدر [ ص: 94 ] على رد أحد منهم عن غيه بشيء من الأشياء فقال: أفرأيت أي: أعلمت علما هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس من اتخذ [أي] بغاية جهده واجتهاده إلهه هواه أي: حول وصف الإله حتى صار هوى لنفسه، فهو تابع لهواه ليس غير، فهو في أودية الضلال يهيم على غير سنن فهو معرض لكل بلاء، فخسر أكثر من ربحه لكونه بلا دليل، والدليل على أنهم لا يعبدون إلا مجرد الهوى ما رواه البخاري في وفد بني حنيفة من المغازي من صحيحه عن أبي رجاء العطاردي وهو مخضرم ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة، قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به. انتهى. ومع ذلك فكيفما قلبت أمرهم وجدته شعبة يسيرة من كفر الاتحادية، وكل متشبثات قريش التي عابهم الله بها تشبثت بها الاتحادية حتى قولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى، ولم يبق إلا ما ينسب إلى [ ص: 95 ] الإلهية كما اضمحل الطين في: اتحدت الطين حرقا، فصار المعنى أن العابد لا يتحرك إلا بحسب ما يأمره به الإله ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب، ولو كان التقديم في هذا بحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم هنا [الهوى] لأن السياق والسباق [له] وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا، ومفعول "رأى" الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام: فمن يهديه تقديره: أيمكن أحدا غير الله هدايته ما دام هواه موجودا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه. انتهى. ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود وهو الفضاء، أي ينزل به عن درجة عليا إلى ما دونها. فهو في سفول ما دام تابعا له لأنه بحيث لا قرار ولا تمكن، فلذلك هو يوجب الهوان، قال الأصبهاني : سئل ابن المقفع عن الهوى، فقال: هوان سرقت نونه، فنظمه من قال: [ ص: 96 ]

                                                                                                                                                                                                                                      نون الهوان من الهوى مسروقة وأسير كل هوى أسير هوان

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر ولم يخطئ المعنى وأجاد:


                                                                                                                                                                                                                                      إن الهوى لهو الهوان بعينه     فإذا هويت فقد لقيت هوانا

                                                                                                                                                                                                                                      وأضله الله أي: بما له من الإحاطة على علم منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر، ومن أنه لا يكون منفردا بالملك إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة، وهو أنه لم يخلق الكون إلا حكيم، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم على بعض من غير فصل [بينهم] لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها، أو على علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك لأنه جبله جبلة شر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي منه إلى غيره، وكان من لا ينتفع بما هو له في حكم العادم له قال: وختم أي: زيادة [ ص: 97 ] على الإضلال الحاضر على سمعه فلا فهم له في الآيات المسموعة. ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال: وقلبه أي: فهو لا يعي ما من حقه وعيه. ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال: وجعل على بصره غشاوة فصار لا يبصر الآيات المرئية، وترتيبها هكذا لأنها في سياق الإضلال كما تقدم في البقرة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما صار هذا الإنسان الذي [صار] لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه، ولا يبصر حق البصر ليهتدي ببصره دون رتبة الحيوان، قال تعالى منكرا مسببا للإنكار عما تقدمه: فمن يهديه وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله: من بعد الله أي: إضلال الذي له الإحاطة بكل شيء. ولما كان من المعلوم قطعا أنه لا هادي له غيره، سبب عنه الإنكار لعدم التذكر حثا على التذكر فقال مشيرا بإدغام تاء التفعل إلى عدم الاحتياج بسبب وضوحه إلى كثير [ ص: 98 ] تذكر: أفلا تذكرون أي: يكون لكم نوع تذكر فتذكرون أنهم لا يسمعون الآيات المتلوة ولا يعتبرون بالآيات المرئية مع ما لكل منهما من الظهور، وأن من كان هذا حاله فلا سبيل لمخلوق مثله إلى هدايته.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية