الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل الإيجاز قسمان: إيجاز قصر، وإيجاز حذف فالأول هو الوجيز بلفظه. قال الشيخ بهاء الدين: الكلام القليل إن كان بعضا من كلام أطول منه فهو إيجاز حذف، وإن كان كلاما يعطي معنى أطول منه فهو إيجاز قصر. وقال بعضهم: إيجاز القصر هو تكثير المعنى بتقليل اللفظ. وقال آخر: هو أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة. وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: أوتيت جوامع الكلم. وقال الطيبي في التبيان: الإيجاز الخالي من الحذف ثلاثة أقسام: [ ص: 224 ] أحدها: إيجاز القصر، وهو أن يقصر اللفظ على معناه، كقوله تعالى: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم إلى قوله: ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين جمع في أحرف العنوان والكتاب والحاجة. وقيل في وصف بليغ: كانت ألفاظه قوالب معناه. قلت: وهذا رأي من يدخل، المساواة في الإيجاز. الثاني: إيجاز التقدير، وهو أن يقدر معنى زائدا على المنطوق، ويسمى بالتضييق أيضا، وبه سماه بدر الدين بن مالك في الصباح، لأنه نقص من الكلام ما صار لفظه أضيق من قدر معناه، نحو: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ، أي خطاياه غفرت، فهي له لا عليه. هدى للمتقين ، أي الضالين الصائرين بعد الضلال إلى التقوى. الثالث: الإيجاز الجامع، وهو أن يحتوي اللفظ على معان متعددة، نحو: إن الله يأمر بالعدل والإحسان . فإن العدل هو الصراط المستقيم التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط المؤدي به إلى جميع الواجبات في الاعتقاد والأخلاق والعبودية. والإحسان هو الإخلاص في واجبات العبودية لتفسيره في الحديث بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه، أي تعبده مخلصا في نيتك، وواقفا في الخضوع، آخذا أهبة الحذر إلى ما لا يحصى، " وإيتاء ذي القربى " هو الزيادة على الواجب من النوافل، هذا في الأوامر. وأما النواهي فـ "بالفحشاء" الإشارة إلى القوة الشهوانية، وبالمنكر إلى الإفراط الحاصل من آثار الغضبية أو كل محرم شرعا، وبالبغي إلى الاستعلاء الفائق من ألوهيته. قلت: ولهذا قال ابن مسعود: ما في القرآن آية أجمع للخير والشر من هذه الآية. أخرجه في المستدرك. وروى البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه قرأها ثم وقف فقال: إن الله جمع لكم الخير والشر كله في آية واحدة، فوالله ما [ ص: 225 ] ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيتا إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه. وروي أيضا عن ابن شهاب في معنى حديث الشيخين: بعثت بجوامع الكلم، قال: بلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع لكم الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك. ومن ذلك قوله تعالى: خذ العفو . فإنها جامعة لمكارم الأخلاق، لأن في أخذ العفو التساهل والتسامح في الحقوق، واللين والرفق في الدعاء إلى الدين. وفي الأمر بالعرف كف الأذى وغض البصر وما شاكلها من المحرمات. وفي الإعراض الصبر والحلم والتؤدة. ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: قل هو الله أحد . فإنه نهاية التنزيه. وقد تضمنت الرد على نحو أربعين فرقة، كما أفردها بالتصنيف بهاء الدين بن شداد. وقوله: أخرج منها ماءها ومرعاها . دل بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنعام من العشب والشجر، والحب والثمر، والعصف والحطب، واللباس والنار والملح، لأن النار من العيدان، والملح من الماء. وقوله: لا يصدعون عنها ولا ينزفون . جمع فيه عيوب الخمر من الصداع، وعدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب. وقوله: وقيل يا أرض ابلعي ماءك الآية. أمر فيها ونهى، وأخبر ونادى، ونعت وسمى، وأهلك وأبقى، وأسعد وأشقى، وقص من الأنباء ما لو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام. وقد أفردت بلاغة هذه الآية بالتأليف. [ ص: 226 ] وفي العجائب للكرماني: أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية بعد أن فتشوا جميع كلام العرب والعجم فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها، وحسن نظمها، وجودة معانيها في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال. وقوله: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم . جمع في هذه اللفظة أحد عشر جنسا من الكلام، نادت وكنت، ونبهت وسمت، وأمرت وقصت، وحذرت، وخصت وعمت، وأشارت وأعذرت. فالنداء يا. والكناية أي. والتنبيه ها. والتسمية النمل. والأمر ادخلوا. والقصص مساكنكم. والتحذير لا يحطمنكم. والتخصيص سليمان. والتعميم جنوده. والإشارة وهم. والعذر لا يشعرون. فأدت خمسة حقوق: حق الله، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها، وحق جنود سليمان. وقوله: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد . جمع فيها أصول الكلام: النداء، والعموم، والخصوص، والأمر، والإباحة، والنهي، والخبر. وقال بعضهم: جمع الله الحكمة في شطر آية: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا . وقوله: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه . قال ابن العربي: هي من أعظم آي القرآن في الفصاحة، إذ فيها أمران ونهيان، وخبران وبشارتان. وقوله: فاصدع بما تؤمر . قال ابن أبي الإصبع: المعنى صرح بجميع ما أوحي إليك، وبلغ كل ما أمرت ببيانه، وإن شق بعض ذلك على بعض القلوب فانصدعت، والمشابهة بينهما فما يؤثره التصريح في القلوب، فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار أو الاستبشار، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة، فانظر [ ص: 227 ] إلى جليل هذه الاستعارة، وعظيم إيجازها، وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة. وقد حكي عن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الآية سجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وقوله تعالى: وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين . قال بعضهم: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على وصف ما فيها على التفصيل لم يخرجوا عنه. وقوله: ولكم في القصاص حياة . قال: معناه كثير، ولفظه يسير، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل به كان ذلك داعيا إلى ألا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع القتل حياة لهم. وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: القتل أنفى للقتل - بعشرين وجها أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل، وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وإنما العلماء يقدحون أفهامهم فيما يظهر لهم من ذلك. الأول: أن ما يناظره من كلامهم، وهو قوله: القصاص حياة أقل حروفا، فإن حروفها عشرة، وحروف: القتل أنفى للقتل - أربعة عشر. الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والآية ناصة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه. الثالث: أن تنكير حياة تفيد تعظيما، فتدل على أن القصاص في حياة متطاولة، كقوله: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة . ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء. الرابع: أن الآية مطردة بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل [ ص: 228 ] قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلما، وإنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، ففيه حياة أبدا. الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ " القتل " الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه، وإن لم يكن مخلا بالفصاحة. السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم، فإن فيه حذف " من " التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف قصاصا مع القتل الأول وظلما مع القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما من تركه. السابع: أن في الآية طباقا، لأن القصاص مشعر بضد الحياة، بخلاف القتل. الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلا ومكانا لضده الذي هو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، ذكره في الكشاف وعبر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه. التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة، وهو السكون بعد الحركة وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت فصاحته بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات، نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فجثت ثم تحركت فجثت لا يتبين انطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة. العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر، لأن الشيء لا ينفي نفسه. الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة، وبعدها عن غنة النون. الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد، إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض، فهو [ ص: 229 ] غير ملائم للقاف، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق. الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء. الرابع عشر: سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة. فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل. الخامس عشر: أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل. بخلاف مطلق القتل. السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات والمثل على النفي، والإثبات أشرف، لأنه أول، والنفي ثان عنه. السابع عشر: أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة. وقوله: ولكم في القصاص حياة مفهوم من أول وهلة. الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة التاسع عشر: أن أفعل في الغالب تقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل، ولكن القصاص أكثر نفيا، وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك. العشرون: أن الآية رادعة عن القتل والجرح معا لشمول القصاص لها. والحياة أيضا في قصاص الأعضاء، لأن قطع العضو ينقص مصلحة الحياة، وقد يسري إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل. ثم في أول الآية: ولكم . وفيها لطيفة، وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية