الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) : يحتمل النصب والرفع . فالنصب من وجهين : إما على الاتباع ، وإما على القطع ، أي أذم الذين . والرفع من وجهين : إما على القطع ، أي هم الذين ، وإما على الابتداء ، ويكون الخبر الجملة من قوله : ( أولئك هم الخاسرون ) . وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد ، فالأولى من هذا الإعراب الأعاريب التي ذكرناها وأولاها الإتباع ، وتكون هذه الصفة صفة ذم ، وهي لازمة ، إذ كل فاسق ينقض العهد ويقطع ما أمر الله بوصله

واختلفوا في تفسير العهد على أقوال : أحدها : أنه وصية الله إلى خلقه وأمره لهم بطاعته ، ونهيه لهم عن معصيته في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة . ونقضهم له تركهم العمل به . الثاني : أنه العهد الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم في قوله : ( وإذ أخذ ربك ) الآية ، ونقضهم له : كفر بعضهم بربوبيته ، وبعضهم بحقوق نعمته . الثالث : ما أخذه الله عليهم في الكتب المنزلة من الإقرار بتوحيده ، والاعتراف بنعمه ، والتصديق لأنبيائه ورسله ، وبما جاءوا به في قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) الآية ، ونقضهم له نبذه وراء ظهورهم ، وتبديل ما في كتبهم من وصفه صلى الله عليه وسلم . الرابع : ما أخذه الله تعالى على الأنبياء ومتبعيهم أن لا يكفروا بالله ولا بالنبي - صلى الله عليه وسلم ، وأن ينصروه ويعظموه في قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم ) الآية ، ونقضهم له : إنكارهم لنبوته وتغييرهم لصفته . الخامس : إيمانهم به - صلى الله عليه وسلم - ورسالته قبل بعثه ، ونقضهم له جحدهم لنبوته ولصفته . السادس : ما جعله في عقولهم من الحجة على توحيده وتصديق رسوله ، بالنظر في المعجزات الدالة على إعجاز القرآن وصدقه ، ونبوة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ونقضهم هو تركهم النظر في ذلك وتقليدهم لآبائهم . السابع : الأمانة المعروضة على السماوات والأرض التي حملها الإنسان ، ونقضهم تركهم القيام بحقوقها . الثامن : ما أخذه عليهم من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، ونقضهم عودهم إلى ما نهوا عنه ، وهذا القول يدل على أن المخاطب بذلك بنو إسرائيل . التاسع : هو الإيمان والتزام الشرائع ، ونقضه كفره بعد الإيمان .

وهذه الأقوال التسعة منها ما يدل على العموم في كل ناقض للعهد ، ومنها ما يدل على أن المخاطب قوم مخصوصون ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف الذي وقع في سبب النزول ، والعموم هو الظاهر . فكل من نقض عهد الله من مسلم وكافر ومنافق أو مشرك أو كتابي تناوله هذا الذم ، و ( من ) متعلقة بقوله ينقضون ، وهي لابتداء الغاية ، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما ، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد ، فأثر ما استوثق الله منهم نقضوه . وقيل : ( من ) زائدة وهو بعيد ، والميثاق مفعول من الوثاقة ، وهو الشد في العقد ، وقد ذكرنا أنه العهد المؤكد باليمين . وليس المعنى هنا على ذلك ، وإنما كنى به عن الالتزام والقبول . قال أبو محمد بن عطية : هو اسم في موضع المصدر ، كما قال عمرو بن شييم :


أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا



[ ص: 128 ] أراد بعد إعطائك . انتهى كلامه . ولا يتعين ما ذكر ، بل قد أجاز الزمخشري أن يكون بعد التوثقة ، كما أن الميعاد بمعنى الوعد ، والميلاد بمعنى الولادة ، وظاهر كلام الزمخشري أن يكون مصدرا ، والأصل في مفعال أن يكون وصفا نحو : مطعام ومسقام ومذكار . وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج ، وكلام أبي عبد الله بن مالك ، وهما من أوعب الناس لأبنية المصادر ، فلم يذكرا مفعالا في أبنية المصادر . والضمير في ميثاقه عائد على العهد ; لأنه المحدث عنه ، وأجيز أن يكون عائدا على الله تعالى ، أي من توثيقه عليهم ، أو من بعد ما وثق به عهده على اختلاف التأويلين في الميثاق . قال أبو البقاء : إن أعدت الهاء على اسم الله كان المصدر مضافا إلى الفاعل ، وإن أعدتها إلى العهد كان مضافا إلى المفعول ، وهذا يدل على أن الميثاق عنده مصدر .

( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) : و ( ما ) موصولة بمعنى الذي ، وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطعوه بالتكذيب والعصيان ، قاله الحسن ، وفيه ضعف ، إذ لو كان كما قال لكان ( من ) مكان ( ما ) . الثاني : القول ، أمر الله أن يوصل بالعمل فقطعوا بينهما ، قالوا ولم يعملوا ، يشير إلى أنها نزلت في المنافقين ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) . الثالث : التصديق بالأنبياء ، أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض . الرابع : الرحم والقرابة ، قاله قتادة ، وهذا يدل على أنه أراد كفار قريش ومن أشبههم . الخامس : أنه على العموم في كل ما أمر الله به أن يوصل ، وهذا هو الأوجه ; لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ، ولا دليل واضح على الخصوص .

وأجاز أبو البقاء أن تكون ( ما ) نكرة موصوفة ، وقد بينا ضعف القول بأن ( ما ) تكون موصوفة خصوصا هنا ، إذ يصير المعنى : ويقطعون شيئا أمر الله به أن يوصل ، فهو مطلق ، ولا يقع الذم البليغ والحكم بالفسق والخسران بفعل مطلق ما ، والأمر هو استدعاء الأعلى الفعل من الأدنى ، قال الزمخشري : وبعثه عليه . وهي نكتة اعتزالية لطيفة ، قال : وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ; لأن الداعي الذي يدعو إليه من لا يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : ( أمر ) تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به ، كما قيل له : شأن ، والشأن الطلب والقصد ، يقال شأنت شأنه ، أي قصدت قصده ، وأمر يتعدى إلى اثنين ، والأول محذوف لفهم المعنى ، أي ما أمر الله به ، ( وأن يوصل ) في موضع جر بدل من الضمير في ( به ) تقديره به وصله ، أي ما أمرهم الله بوصله ، نحو قول الشاعر :


أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص     فتقصر عنها حقبة وتبوص



أي أمن ذكر سلمى نأيها .

وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون ( أن يوصل ) في موضع نصب بدلا من ( ما ) أي وصله ، والتقدير : ويقطعون وصل ما أمر الله به . وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولا من أجله ، وقدره المهدوي : كراهية أن يوصل ، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل . وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ( أن يوصل ) في موضع رفع ، أي هو أن يوصل . وهذه الأعاريب كلها ضعيفة ، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحا . والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله ، وسواه من الأعاريب بعيد عن فصيح الكلام ، بله أفصح الكلام وهو كلام الله .

( ويفسدون في الأرض ) ، فيه أربعة أقوال : أحدها : استدعاؤهم إلى الكفر والترغيب فيه ، وحمل الناس عليه . الثاني : إخافتهم السبيل ، وقطعهم الطريق على من هاجر إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وغيرهم . الثالث : نقض العهد . الرابع : كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها . وقال ابن عطية : يعبدون غير الله ، ويجوزون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، وهذا قريب من القول الرابع . وقد تقدم ما معنى ( في الأرض ) [ ص: 129 ] والتنبيه على ذكر الأرض ، عند الكلام على قوله : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) ، فأغنى عن إعادته هنا . وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعا من البديع يسميه أرباب البيان بالطباق . وقد تقدم شيء منه ، وهو أن تأتي بالشيء وضده ، ووقع هنا في قوله تعالى : ( بعوضة فما فوقها ) ، فإنهما دليلان على الحقير والكبير ، وفي قوله : ( فأما الذين آمنوا ) ، ( وأما الذين كفروا ) ، وفي قوله تعالى : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) وفي قوله : ( ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) ، وفي قوله : ( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) . وجاء في هذه الثلاثة الأخيرة مناسبة الطباق ، وهو أن كل أول منها كائن بعد مقابله ، فالضلال بعد الهداية لقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، ولدخول أولاد الذين كفروا الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ ، والنقض بعد التوثقة ، والقطع بعد الوصل . فهذه ثلاثة تناسبت في الطباق . وفي وصل ( الذين ) بالمضارع وعطف المضارعين عليه دليل على تجدد النقض والقطع والإفساد ، وإشعار أيضا بالديمومة ، وهو أبلغ في الذم ، وبناء ( يوصل ) للمفعول هو أبلغ من بنائه للفاعل ; لأنه يشمل ما أمر الله بأن يصلوه أو يصله غيرهم .

وترتيب هذه الصلات في غاية من الحسن ; لأنه قد بدأ أولا بنقض العهد ، وهو أخص هذه الثلاث ، ثم ثنى بقطع ما أمر الله بوصله ، وهو أعم من نقض العهد وغيره ، ثم أتى ثالثا بالإفساد الذي هو أعم من القطع ، وكلها ثمرات الفسق ، وأتى باسم الفاعل صلة للألف واللام ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة ، فيكون وصف الفسق لهم ثابتا ، وتكون النتائج عنه متجددة متكررة ، فيكون الذم لهم أبلغ ; لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدد فروعه ونتائجه ، ولما ذكر أوصاف الفاسقين أشار إليهم بقوله : ( أولئك ) ، أي : أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقض والقطع والإفساد .

( هم الخاسرون ) : وفسر ( الخاسرون ) بالناقصين حظوظهم وشرفهم ، وبالهالكين ، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقابها بالثواب ، وقيل : الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة ، وقيل : خسروا نعيم الآخرة ، وقيل : خسروا حسناتهم التي عملوها ، أحبطوها بكفرهم . والآية في اليهود ، ولهم أعمال في شريعتهم . وفي المنافقين وهم يعملون في الظاهر عمل المخلصين . قال القفال : الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملا يجزى عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية