الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر فتح خراسان

وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان ، في قول بعضهم . وقيل : سنة ثماني عشرة .

وسبب ذلك أن يزدجرد لما سار إلى الري بعد هزيمة أهل جلولاء ، وانتهى إليها وعليها أبان جاذويه وثب عليه فأخذه . فقال يزدجرد : يا أبان تغدر بي ! قال : لا ولكن قد تركت ملكك ، فصار في يد غيرك ، فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء . وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصكاك بكل ما أعجبه ، ثم ختم عليها ورد الخاتم ، ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شيء في كتابه .

[ ص: 415 ] وسار يزدجرد من الري إلى أصبهان ، ثم منها إلى كرمان والنار معه ، ثم قصد خراسان فأتى مروا فنزلها وبنى للنار بيتا ، واطمأن وأمن أن يؤتى ، ودان له من بقي من الأعاجم . وكاتب الهرمزان وأثار أهل فارس ، فنكثوا ، وأثار أهل الجبال والفيرزان ، فنكثوا ، فأذن عمر للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس ، فسار الأحنف إلى خراسان ، فدخلها من الطبسين ، فافتتح هراة عنوة ، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي ، ثم سار نحو مرو الشاهجان ، فأرسل إلى نيسابور مطرف بن عبد الله بن الشخير ، وإلى سرخس الحارث بن حسان ، فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد إلى مرو الروذ حتى نزلها ، ونزل الأحنف مرو الشاهجان ، وكتب يزدجرد ، وهو بمرو الروذ ، إلى خاقان وإلى ملك الصغد وإلى ملك الصين يستمدهم . وخرج الأحنف من مرو الشاهجان واستخلف عليها حارثة بن النعمان الباهلي بعدما لحقت به أمداد أهل الكوفة ، وسار نحو مرو الروذ .

فلما سمع يزدجرد سار عنها إلى بلخ ، ونزل الأحنف مرو الروذ . وقدم أهل الكوفة إلى يزدجرد واتبعهم الأحنف ، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ ، فانهزم يزدجرد وعبر النهر ، ولحق الأحنف بأهل الكوفة ، وقد فتح الله عليهم ، فبلخ من فتوحهم .

وتتابع أهل خراسان من هرب وشذ على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ فنزلها ، واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر ، وكتب الأحنف إلى عمر بالفتح ، فقال عمر : وددت أن بيننا وبينها بحرا من نار . فقال علي : ولم يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة ، فكان ذلك بأهلها أحب إلي من أن يكون بالمسلمين .

وكتب عمر إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النهر ولا يجوزه .

ولما عبر يزدجرد النهر مهزوما أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد ، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ ، ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمرو الروذ ، ونزل المشركون عليه بمرو أيضا .

وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النهر إليه خرج ليلا يتسمع هل يسمع برأي ينتفع به ، فمر برجلين ينقيان علفا ، وأحدهما يقول لصاحبه : لو أسندنا الأمير إلى هذا الجبل ، فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقا ، وكان الجبل في ظهورنا فلا يأتونا [ ص: 416 ] من خلفنا ، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله . فرجع ، فلما أصبح جمع الناس ورحل بهم إلى سفح الجبل ، وكان معه من أهل البصرة عشرة آلاف ومن أهل الكوفة نحو منهم ، وأقبلت الترك ومن معها ، فنزلت وجعلوا يغادونهم القتال ويراوحونهم ، وفي الليل يتنحون عنهم .

فخرج الأحنف ليلة طليعة لأصحابه ، حتى إذا كان قريبا من عسكر خاقان وقف ، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه ، فضرب بطبله ، ثم وقف من العسكر موقفا يقفه مثله ، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا ، فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف ، فخرج آخر من الترك ففعل فعل صاحبه ، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا ، فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف ، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين ، فحمل عليه الأحنف فقتله ، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره .

وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء ، كلهم يضرب بطبله ، ثم يخرجون بعد خروج الثالث . فلما خرجوا تلك الليلة بعد الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين تشاءم خاقان وتطير فقال : قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا ، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير ; فرجعوا . وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحدا ، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ ، وقد كان يزدجرد ترك خاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ ، وانصرف إلى مرو الشاهجان ، فتحصن حارثة بن النعمان ومن معه ، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها ، وخاقان مقيم ببلخ .

فلما جمع يزدجرد خزائنه ، وكانت كبيرة عظيمة ، وأراد أن يلحق بخاقان قال له أهل فارس : أي شيء تريد أن تصنع ؟ قال : أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين . قالوا له : إن هذا رأي سوء ، ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم أوفياء وهم أهل دين ، وإن عدوا يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في بلاده ولا دين لهم ، ولا ندري ما وفاؤهم . فأبى عليهم . فقالوا : دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا لا تخرجها من بلادنا . فأبى ، فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها ، وانهزم منهم ولحق بخاقان ، وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة ، وأقام يزدجرد ببلد الترك ، فلم يزل مقيما زمن عمر كله إلى أن كفر أهل خراسان زمن عثمان ، وكان يكاتبهم ويكاتبونه . وسيرد ذكر ذلك في موضعه .

ثم أقبل أهل فارس بعد رحيل يزدجرد على الأحنف ، فصالحوه ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال ، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا عليه زمن الأكاسرة ، واغتبطوا بملك المسلمين . وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهمه يوم القادسية . [ ص: 417 ] وسار الأحنف إلى بلخ فنزلها بعد عبور خاقان النهر منها ، ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع . ثم رجع إلى مرو الروذ فنزلها ، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر .

ولما عبر خاقان ويزدجرد النهر لقيا رسول يزدجرد الذي أرسله إلى ملك الصين ، فأخبرهما أن ملك الصين قال له : صف لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم ، فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم ، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم ، إلا بخير عندهم وشر فيكم . فقلت : سلني عما أحببت . فقال : أيوفون بالعهد ؟ قلت : نعم . قال : وما يقولون لكم قبل القتال ؟ قال قلت : يدعوننا إلى واحدة من ثلاث : إما دينهم ، فإن أجبنا أجرونا مجراهم ، أو الجزية والمنعة ، أو المنابذة . قال : فكيف طاعتهم أمراءهم ؟ قلت : أطوع قوم وأرشدهم . قال : فما يحلون وما يحرمون ؟ فأخبرته . قال : هل يحلون ما حرم عليهم أو يحرمون ما حلل لهم ؟ قلت : لا . قال : فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظفر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم .

ثم قال : أخبرني عن لباسهم ؟ فأخبرته ، وعن مطاياهم ؟ فقلت : الخيل العراب ، ووصفتها له . فقال : نعمت الحصون ! ووصفت له الإبل وبروكها وقيامها بحملها . فقال : هذه صفة دواب طوال الأعناق . وكتب معه إلى يزدجرد : إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ، ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على [ ما ] وصف ، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة ، ولا تهيجهم ما لم يهيجوك . فأقام يزدجرد بفرغانة ومعه آل كسرى بعهد من خاقان .

ولما وصل خبر الفتح إلى عمر بن الخطاب جمع الناس ، وخطبهم وقرأ عليهم كتاب الفتح ، وحمد الله في خطبته على إنجاز وعده ، ثم قال : ألا وإن ملك المجوسية قد هلك ، فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم . ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون ، فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم ، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم .

وقيل : إن فتح خراسان كان زمن عثمان ، وسيرد هناك .

التالي السابق


الخدمات العلمية