الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        جهات ضمان الصيد ثلاث : المباشرة ، والتسبب ، واليد . فالمباشرة معروفة . وأما التسبب ، فموضع ضبطه كتاب الجنايات . ويذكر هنا صور :

                                                                                                                                                                        إحداها : لو نصب الحلال شبكة في الحرم ، أو نصبها المحرم حيث كان ، فتعقل بها صيد وهلك ، فعليه الضمان ، سواء نصبها في ملكه أو غيره .

                                                                                                                                                                        [ ص: 148 ] قلت : ولو نصب الشبكة ، أو الأحبولة وهو حلال ، ثم أحرم فوقع بها صيد ، لم يلزمه شيء ، ذكره القفال ، وصاحب " البحر " وغيرهما . وهو معنى نص الشافعي رحمه الله تعالى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثانية : لو أرسل كلبا ، أو حل رباطه ولم يرسله ، فأتلف صيدا ، لزمه ضمانه . ولو انحل الرباط لتقصيره فيه ، ضمن على المذهب ، هذا إذا كان هناك صيد . فإن لم يكن فأرسل الكلب أو حل رباطه ، فظهر صيد ، ضمنه أيضا على الأصح .

                                                                                                                                                                        قلت : قال القاضي أبو حامد وغيره : يكره للمحرم حمل البازي وكل صائد . فإن حمله فأرسله على صيد فلم يقتله فلا جزاء ، لكن يأثم . ولو انفلت بنفسه فقتله فلا ضمان . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثالثة : لو نفر المحرم صيدا فعثر وهلك به ، أو أخذه سبع ، أو انصدم بشجرة ، أو جبل لزمه الضمان ، سواء قصد تنفيره ، أم لا ، ويكون في عهدة التنفير حتى يعود الصيد إلى عادته في السكون . فإن هلك بعد ذلك ، فلا ضمان . ولو هلك قبل سكون النفار بآفة سماوية ، فلا ضمان على الأصح ، إذ لم يتلف بسببه ولا في يده . ووجه الثاني : استدامة أثر النفار .

                                                                                                                                                                        الرابعة : لو حفر المحرم بئرا حيث كان ، أو حفرها حلال في الحرم في محل عدوان ، فهلك فيها صيد ، لزمه الضمان . ولو حفرها في ملكه أو في موات ، فثلاثة أوجه ، أصحها : يضمن في الحرم دون الإحرام .

                                                                                                                                                                        قلت : وقيل : إن حفرها للصيد ، ضمن ، وإلا فلا ، واختاره صاحب الحاوي . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 149 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو دل الحلال محرما على صيد فقتله ، وجب الجزاء على المحرم ، ولا ضمان على الحلال ، سواء كان في يده ، أم لا ، لكنه يأثم .

                                                                                                                                                                        ولو دل المحرم حلالا على صيد فقتله ، فإن كان في يد المحرم ، لزمه الجزاء ؛ لأنه ترك حفظه وهو واجب ، فصار كالمودع إذا دل السارق ، وإلا فلا جزاء على واحد منهما . ولو أمسك محرم صيدا حتى قتله غيره ، فإن كان القاتل حلالا ، وجب الجزاء على المحرم وهل يرجع به على الحلال ؟ وجهان :

                                                                                                                                                                        قال الشيخ أبو حامد : لا ؛ لأنه غير حرام عليه . وقال القاضي أبو الطيب : نعم ، وبه قطع في " التهذيب " كما لو غصب شيئا فأتلفه إنسان في يده .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : الأول ؛ لأنه غير مضمون في حقه بخلاف المغصوب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإن كان محرما أيضا ، فوجهان . أصحهما : الجزاء كله على القاتل . والثاني : عليهما نصفين . وقال صاحب العدة : الأصح أن الممسك يضمنه باليد ، والقاتل بالإتلاف . فإن أخرج الممسك الضمان رجع به على المتلف ، وإن أخرج المتلف لم يرجع على الممسك .

                                                                                                                                                                        قلت : قال صاحب " البحر " : لو رمى حلال صيدا ، ثم أحرم ، ثم أصابه ضمنه على الأصح . ولو رمى محرم ثم تحلل ، بأن قصر شعره ، ثم أصابه ، فوجهان . ولو رمى صيدا ، فنفذ منه إلى صيد آخر ، فقتلهما ، ضمنهما . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 150 ] الجهة الثالثة : اليد . فيحرم على المحرم إثبات اليد على الصيد ابتداء ، ولا يحصل به الملك ، وإذا أخذه ، ضمنه كالغاصب . بل لو حصل التلف بسبب في يده ، بأن كان راكب دابة ، فتلف صيد بعضها ، أو رفسها ، أو بالت في الطرق ، فزلق به صيد فهلك ، لزمه الضمان . ولو انفلت بعيره فأتلف صيدا ، فلا شيء عليه . نص على هذا كله .

                                                                                                                                                                        ولو تقدم ابتداء اليد على الإحرام ، بأن كان في يده صيد مملوك له ، لزمه إرساله على الأظهر . والثاني : لا يلزمه . وقيل : لا يلزمه قطعا ، بل يستحب . فإن لم نوجب الإرسال ، فهو على ملكه ، له بيعه وهبته ، لكن لا يجوز له قتله . فإن قتله ، لزمه الجزاء . كما لو قتل عبده ، تلزمه الكفارة . ولو أرسله غيره ، أو قتله ، لزمه قيمته للمالك ، ولا شيء على المالك . وإن أوجبنا الإرسال ، فهل يزول ملكه عنه ؟ قولان :

                                                                                                                                                                        أظهرهما : يزول . فعلى هذا ، لو أرسله غيره ، أو قتله ، فلا شيء عليه . ولو أرسله المحرم ، فأخذه غيره ، ملكه . ولو لم يرسله حتى تحلل ، لزمه إرساله على الأصح المنصوص . وحكى الإمام على هذا القول وجهين : في أنه يزول ملكه بنفس الإحرام ، أم الإحرام يوجب عليه الإرسال ، فإذا أرسل ، زال حينئذ ؟ وأولهما : أشبه بكلام الجمهور . وإن قلنا : لا يزول ملكه ، فليس لغيره أخذه ، فلو أخذه لم يملكه . ولو قتله ضمنه .

                                                                                                                                                                        وعلى القولين : لو مات في يده بعد إمكان الإرسال ، لزمه الجزاء ، لأنهما مفرعان على وجوب الإرسال ، وهو مقصر بالإمساك . ولو مات الصيد قبل إمكان الإرسال ، وجب الجزاء على الأصح . ولا يجب تقديم الإرسال على الإحرام بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 151 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو اشترى المحرم صيدا ، أو اتهبه ، أو أوصي له به ، فقبل ، فهو مبني على ما سبق . فإن قلنا : يزول ملكه عن الصيد بالإحرام ، لم يملكه بهذه الأسباب ، وإلا ففي صحة الشراء والهبة قولان ، كشراء الكافر عبدا مسلما ، فإن لم نصحح هذه العقود فليس له القبض . فإن قبض فهلك في يده ، لزمه الجزاء ، ولزمه القيمة للبائع . فإن رده عليه سقطت القيمة ، ولم يسقط ضمان الجزاء إلا بالإرسال . وإذا أرسل ، كان كمن اشترى عبدا مرتدا فقتل في يده . وفيمن يتلف من ضمانه ، خلاف موضعه كتاب البيع .

                                                                                                                                                                        قلت : كذا ذكر الإمام الرافعي هنا ، أنه إذا هلك في يده ، ضمنه بالقيمة للآدمي مع الجزاء ، وهذا في الشراء صحيح ، أما في الهبة ، فلا يضمن القيمة على الأصح ؛ لأن العقد الفاسد كالصحيح في الضمان ، والهبة غير مضمونة ، وقد ذكر الرافعي هذا الخلاف في كتاب " الهبة " : وسيأتي إن شاء الله تعالى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو مات للمحرم قريب يملك صيدا ، ورثه على المذهب . وقيل : هو كالشراء . فإن قلنا : يرث ، قال الإمام ، والغزالي : يزول ملكه عقب ثبوته ، بناء على أن الملك يزول عن الصيد بالإحرام . وفي " التهذيب " وغيره ، خلافه . لأنهم قالوا : إذا ورثه لزمه إرساله . فإن باعه صح بيعه ولا يسقط عنه ضمان الجزاء ، حتى لو مات في يد المشتري وجب الجزاء على البائع . وإنما يسقط عنه إذا [ ص: 152 ] أرسله المشتري . وإن قلنا : لا يرث ، فالملك في الصيد لباقي الورثة . وإحرامه بالنسبة إلى الصيد مانع من موانع الإرث ، كذا قاله في " التتمة " . وقال الشيخ أبو القاسم الكرخي على هذا الوجه : إنه أحق به ، فيوقف حتى يتحلل فيتملكه .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا المنقول عن أبي القاسم الكرخي هو الصحيح ، بل الصواب المعروف على المذهب ، وبه قطع الأصحاب في الطريقين . فممن صرح به الشيخ أبو حامد ، والدارمي وأبو علي البندنيجي ، والمحاملي في كتابيه ، والقاضي أبو الطيب في المجرد ، وصاحب " الحاوي " ، والقاضي حسين ، وصاحبا " العدة " و " البيان " . قال الدارمي : فإن مات الوارث قبل تحلله ، قام وارثه مقامه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو اشترى صيدا ، فوجده معيبا وقد أحرم البائع ، فإن قلنا : يملك الصيد بالإرث ، رده عليه ، وإلا فوجهان ؛ لأن منع الرد إضرار بالمشتري . ولو باع صيدا وهو حلال ، فأحرم ثم أفلس المشتري بالثمن ، لم يكن له الرجوع على الأصح كالشراء ، بخلاف الإرث ، فإنه قهري .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو استعار المحرم صيدا ، أو أودع عنده ، كان مضمونا عليه بالجزاء ، وليس له التعرض له . فإن أرسله ، سقط عنه الجزاء وضمن القيمة للمالك . فإن رد إلى المالك ، لم يسقط عنه الجزاء ما لم يرسله المالك .

                                                                                                                                                                        [ ص: 153 ] قلت : نقل صاحب " البيان " في باب العارية ، عن الشيخ أبي حامد : أن المحرم إذا استودع صيدا لحلال ، فتلف في يده ، لم يلزمه الجزاء ؛ لأنه لم يمسكه لنفسه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        حيث صار الصيد مضمونا على المحرم بالجزاء ، فإن قتله حلال في يده ، فالجزاء على المحرم . وإن قتله محرم آخر ، فهل الجزاء عليهما أم على القاتل ومن في يده ؟ طريق فيه وجهان :

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : الثاني . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو خلص المحرم صيدا من فم سبع ، أو هرة ، أو نحوهما ، وأخذه ليداويه ويتعهده ، فمات في يده ، لم يضمن على الأظهر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        الناسي كالعامد في وجوب الجزاء ، ولا يأثم . وقيل : في وجوب الجزاء عليه قولان . والمذهب : الوجوب . ولو أحرم ثم جن ، فقتل صيدا ، ففي وجوب الجزاء قولان نص عليهما .

                                                                                                                                                                        [ ص: 154 ] قلت : أظهرهما : لا تجب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو صال صيد على محرم ، أو في الحرم ، فقتله دفعا ، فلا ضمان ، ولو ركب إنسان صيدا ، وصال على محرم ، ولا يمكنه دفعه إلا بقتل الصيد ، فقتله ، فالمذهب : وجوب الجزاء على المحرم ، وبه قطع الأكثرون ؛ لأن الأذى ليس من الصيد . وحكى الإمام أن القفال ذكر فيه وجهين . أحدهما : الضمان على الراكب ، ولا يطالب به المحرم . والثاني : يطالب المحرم ، ويرجع بما غرم على الراكب .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو ذبح صيدا في مخمصة وأكله ، ضمن ؛ لأنه أهلكه لمنفعته من غير إيذاء من الصيد . ولو أكره محرم على قتل صيد ، فقتله ، فوجهان . أحدهما : الجزاء على الآمر . والثاني : على المحرم ويرجع به على الآمر ، سواء صيد الحرم أو الإحرام .

                                                                                                                                                                        قلت : الثاني أصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ذكرنا أن الجراد وبيضه مضمونان بالقيمة . فلو وطئه عامدا أو جاهلا ، ضمن . ولو عم المسالك ولم يجد بدا من وطئه ، فوطئه ، فالأظهر : أنه لا ضمان . وقيل : [ ص: 155 ] لا ضمان قطعا ، ولو باض صيد في [ فراشه ] ولم يمكنه رفعه إلا بالتعرض للبيض ، ففسد بذلك ، ففيه هذا الخلاف .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا ذبح المحرم صيدا ، لم يحل له الأكل منه . وهل يحل لغيره أم يكون ميتة ؟ فيه قولان . الجديد : أنه ميتة . فعلى هذا إن كان مملوكا وجب مع الجزاء قيمته للمالك . والقديم : لا يكون ميتة ، فيحل لغيره . فإن كان مملوكا ، لزمه مع الجزاء ما بين قيمته مذبوحا وحيا . وهل يحل له بعد زوال الإحرام ؟ وجهان . أصحهما : لا . وفي صيد الحرم إذا ذبح : طريقان . أصحهما : طرد القولين . والثاني : القطع بالمنع ؛ لأنه محرم على جميع الناس ، وفي جميع الأحوال .

                                                                                                                                                                        قلت : قال صاحب " البحر " : قال أصحابنا : إذا كسر بيض صيد ، فحكم البيض حكم الصيد إذا ذبحه ، فيحرم عليه قطعا . وفي غيره القولان . وكذا إذا كسره في الحرم . قال أصحابنا : وكذا لو قتل المحرم الجراد ، قال : وقيل : يحل البيض لغيره قطعا ، بخلاف الصيد المذبوح على أحد القولين ؛ لأن إباحته تقف على الذكاة ، بخلاف البيض . وعلى هذا لو بلعه إنسان قبل كسره ، لم يحرم . وهذا اختيار الشيخ أبي حامد ، والقاضي الطبري . قال الروياني : وهو الصحيح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 156 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية