الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5325 (10) باب تقليل الحديث حال الرواية وتبيانه

                                                                                              [ 2610 ] عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال: كان أبو هريرة يحدث ويقول: اسمعي يا ربة الحجرة، وعائشة تصلي، فلما قضت صلاتها قالت لعروة: ألا تسمع لهذا ومقالته آنفا؛ إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه.

                                                                                              رواه البخاري (3567)، ومسلم (2493) في الزهد (7).

                                                                                              [ ص: 709 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 709 ] (10 و 11) ومن باب : تقليل الحديث حال الرواية وتبيانه

                                                                                              قد تقدم القول في تقارب الزمان ، وفي الشح .

                                                                                              ( قول أبي هريرة : اسمعي يا ربة الحجرة ) يعني عائشة - رضي الله عنها - كان ذلك منه ليسمعها ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إما ليذكرها بما تعرفه ، أو يفيدها بما لم تسمعه ، فقد كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن لم تكن تحضرها عائشة - رضي الله عنها - ، بل قد كان لأبي هريرة - رضي الله عنه - من الملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في مناقبه ، ما لم يكن لغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - ثم قد اتفق له من الخصوصية التي أوجبت له الحفظ ما لم يتفق لغيره ، فكان عنده من الحديث ما لم يكن عند عائشة ، لكن عائشة أنكرت عليه سرده للحديث والإكثار منه في المجلس الواحد ؛ لذلك قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث سردكم ، إنما كان يحدث حديثا ، لو عده العاد لأحصاه . وقد سلك هذا المسلك كثير من السلف ؛ وكانوا لا يزيدون على عشرة [ ص: 710 ] أحاديث ليست بطوال في المجلس الواحد ، وقد كره الإكثار من الأحاديث كثير من السلف ؛ مخافة ما يكون في الإكثار من الآفات . روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد عاب كثير من الصحابة على أبي هريرة الإكثار من الحديث حتى احتاج أبو هريرة إلى الاعتذار عن ذلك ، والإخبار بموجب ذلك ، قال : إن ناسا يقولون : أكثر أبو هريرة ، ولولا آية في كتاب الله ما حدثت حديثا . ثم قال : إن إخواننا من الأنصار كان شغلهم العمل في أموالهم ، وإن إخواننا من المهاجرين كان شغلهم الصفق بالأسواق ، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني ، أحضر ما لا يحضرون ، وأحفظ ما لا يحفظون . ودخل مالك على ابني أخته أبي بكر وإسماعيل بن أبي أويس ، وهما يكتبان الحديث ، فقال لهما : إن أردتما أن ينفعكما الله بهذا الأمر ، فأقلا منه ، وتفقها . ولقد جاء عن شعبة أنه قال لكتبة الحديث : إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون . قال أبو الحسن القابسي - رحمه الله - : يريد شعبة بقوله هذا عيب تكثير الروايات ؛ لما قد دخل على المكثرين من اختلاط الأحاديث ، وغير ذلك ، فيصيرون بالتكلف إلى أن يتقولوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل .

                                                                                              قلت : ويظهر لي من قول شعبة أنه قصد تحذير من غلبت عليه شهوة كتب الحديث وروايته ، حتى يحمله ذلك على التفريط في متأكد المندوبات من [ ص: 711 ] الصلوات والأذكار والدعوات ؛ حرصا على الإكثار وقضاء للشهوات والأوطار .

                                                                                              قلت : وهذه وصايا السلف وسير أئمة الخلف ، قد نبذها أهل هذه الأزمان ، وانتحلوا ضروبا من الهذيان ، فترى الواحد منهم كحاطب ليل ، وكجالب رجل وخيل ، فيأخذ عمن أقبل وأدبر من العوام ، وممن لم يشعر بشيء قط من هذا الشأن ، غير أنه قد وجد اسمه في طبق السماع على فلان ، أو أجاز له فلان ، وإن كان في ذلك الوقت في سن من لا يفعل من الصبيان ، ويسمون مثل ذلك بالسند العالي ؛ وإن كان باتفاق السلف وأهل العلم في أسفل سفال ، وكل ذلك قصد من كثير منهم إلى الإكثار ، ولأن يقال : انفرد فلان بعالي الروايات والآثار . ومن ظهر منه أنه على تلك الحال فالأخذ عنه حرام وضلال ، بل الذي يجب الأخذ عنه من اشتهر بالعلم والإصابة والصدق والصيانة ممن قيد كتب الحديث المشهورة ، والأمهات المذكورة التي مدار الأحاديث عليها ، ومرجع أهل الإسلام إليها ، فيعارض كتابه بكتابه ، ويقيد منه ما قيده ، ويهمل ما أهمله ، فإن كان ذلك الكتاب ممن شرط مصنفه الصحة كمسلم والبخاري ، أو ميز بين الصحيح وغيره كالترمذي ، وجب التفقه في ذلك والعمل به ، وإن لم يكن كذلك وجب التوقف إلى أن يعلم حال أولئك الرواة ، إما بنفسه إن كانت له أهلية البحث في الرجال ، وإما بتقليد من له أهلية ذلك ، فإذا حصل ذلك وجب التفقه والعمل ، وهو المقصود الأول ، وعليه المعول . وكل ما قبله طريق موصل إليه ، ومحوم عليه . وإن من علامات عدم التوفيق البقاء في الطريق من غير وصول إلى المقصود على التحقيق .




                                                                                              الخدمات العلمية