الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : قوله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض ، وقوله تعالى : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) [ النازعات : 30 ] مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء ، وذلك يوجب التناقض ، واختلف العلماء في هذه المسألة ، والجواب المشهور أن يقال : إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولا ثم خلق بعدها السماء ، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ، وبهذا الطريق يزول التناقض .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى بين أنه خلق الأرض في يومين ، ثم إنه في اليوم الثالث ( جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ) وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة ؛ لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة ، وقوله تعالى : ( وبارك فيها ) مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها ، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة ، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ( ثم استوى إلى السماء ) فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة . وحينئذ يعود السؤال المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه قد دلت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة ، فهي في أول حدوثها إن قلنا : إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضا فهي منذ خلقت كانت مدحوة ، وإن قلنا : إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال : إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة ، وذلك باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الأرض جسم في غاية العظم ، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوا ، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة ، ثم صارت مدحوة قولا باطلا ، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس ، فهو كلام مشكل ؛ لأنه إن كان المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع ، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال .

                                                                                                                                                                                                                                            وإن كان المراد منه أنه خلق أولا أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أجزائها ، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولا ، فهذا يكون اعترافا بأن تخليق الأرض وقع متأخرا عن تخليق السماء .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السماوات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام ، فإذا حصل دحو الأرض من بعد ذلك فقد حصل هذا الدحو في زمان آخر بعد الأيام الستة ، فحينئذ يقع تخليق السماوات والأرض في أكثر من ستة أيام ، وذلك باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ) كناية عن إيجاد السماء والأرض ، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله : ( ائتيا طوعا أو كرها ) يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور ، ونقل الواحدي في " البسيط " عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماوات قبل الأرض ، وتأويل قوله : ( ثم استوى إلى السماء ) ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان ، وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان كما قال تعالى : ( قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ) [ يوسف : 77 ] معناه إن يكن سرق ، وقال تعالى : ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ) [ الأعراف : 4 ] والمعنى فكان قد جاءها .

                                                                                                                                                                                                                                            هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف ؛ لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء ، وهذا جمع بين الضدين ؛ لأن كلمة ( ثم ) تقتضي التأخير ، وكلمة كان تقتضي التقديم ، والجمع بينهما يفيد [ ص: 92 ] التناقض ، وذلك دليل على أنه لم يمكن إجراؤه على ظاهره ، وقد بينا أن قوله : ( ائتيا طوعا أو كرها ) إنما حصل قبل وجودهما ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله : ( ائتيا ) على الأمر والتكليف ، فوجب حمله على ما ذكرناه ، بقي على لفظ الآية سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : ما الفائدة في قوله تعالى : ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ) ؟ الجواب : المقصود منه إظهار كمال القدرة ، والتقدير : ائتي شئتما ذلك أو أبيتما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ ، ولتفعلنه طوعا أو كرها ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين ( قالتا أتينا ) على الطوع لا على الكره ، وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكره ، فوجب أن ينصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف ، تشبه حيوانا مطيعا لله تعالى بخلاف الأرض ، فإنها مختلفة الأحوال ، تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة ، قال تعالى : ( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ النحل : 50 ] وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور ، قالوا : إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة ، وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة ، ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي ، وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات .

                                                                                                                                                                                                                                            فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع ، وعن تكون الأرض بالكره ، وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبدا بما يوجب الكره والكرب والقهر والقسر .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما المراد من قوله : ( ائتيا ) ومن قوله : ( أتينا ) ؟ الجواب : المراد ائتيا إلى الوجود والحصول وهو كقوله ( كن فيكون ) وقيل : المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، أي بأرض مدحوة قرارا ومهادا ، وأي بسماء مقبية سقفا لهم ، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد ، كما تقول : أتى عمله مرضيا وجاء مقبولا ، ويجوز أيضا أن يكون المعنى لتأت كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قرارا للسماء وكون السماء سقفا للأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : هلا قيل : طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى ؛ لأنهما سماوات وأرضون ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصين بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله : ( ساجدين ) [ الحجر : 29 ] ومنهم من استدل به على كون السماوات أحياء ، وقال : الأرض في جوف السماوات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير ، فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة ، إلا أن هذا القول باطل ، لإجماع المتكلمين على فساده .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه والضمير في قوله : ( فقضاهن ) يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال : ( طائعين ) ونحوه ( أعجاز نخل خاوية ) [ الحاقة : 7 ] ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سماوات ، والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال ، والثاني على التمييز .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 93 ] ذكر أهل الأثر أنه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين وخلق ما في سائر الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة ، فإن قيل : اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بسبب طلوع الشمس وغروبها ، وقبل حدوث السماوات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : معناه إنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدرا بيوم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية