الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2268 - وعن حنظلة بن الربيع الأسيدي - رضي الله عنه - ، قال : لقيني أبو بكر قال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت : نافق حنظلة . قال : سبحان الله ما تقول ؟ ! قلت : نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيرا . قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وما ذاك ؟ ) قلت : يا رسول الله ! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ! ساعة وساعة " ثلاث مرات ( رواه مسلم ) .

التالي السابق


2268 - ( وعن حنظلة ) : هذا كاتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا حنظلة بن مالك غسيل الملائكة ( بن الربيع ) : بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد الياء المكسورة ، وفي نسخة الربيع بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية ، كذا بخط الكرماني شارح البخاري ، ويؤيده ما في مقدمة ابن حجر : الربيع كثير وبالتصغير امرأتان ا هـ . فينبغي الاعتماد عليها ( الأسيدي ) : بضم الهمزة وفتح السين وتشديد الياء وتخفيفها والأول أصح وأشهر على ما في شرح مسلم . ( قال : لقيني أبو بكر ) : ولعله لما كان مغلوبا لم يقل لقيت أبا بكر كما هو مقتضى الأدب ( فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ ) : سؤال عن الحال أي : كيف استقامتك على ما تسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أهي موجودة أم لا ؟ وقال الطيبي : أي : أتستقيم على الطريق أم لا ؟ ( فقلت : نافق حنظلة ) : عبر عن نفسه لغيبته عنها بالغيبة أي : صار منافقا وأراد نفاق الحال لا نفاق الإيمان . قال الطيبي : فيه تجريد لأن أصل الكلام نافقت ، فجرد من نفسه شخصا آخر مثله ، فهو يخبر عنه لما رأى من نفسه ما لا يرضى لمخالفة السر العلن ، والحضور الغيبة .

( قال ) : أي : أبو بكر ( سبحان الله ) : تعجب أو تبرئة وتنزيه ( ما تقول ؟ ! ) : أي : بين معنى ما تقول : قال الطيبي : ما استفهامية ، وقوله : تقول هو المتعجب منه يعني : عجبت من قولك هذا الذي حكمت فيه بالنفاق على نفسك . ( قلت : نكون ) : أي : جميعا على وصف الجمعية ( عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : والمعنى : لا عجب في ذلك ؛ لأنا نكون عنده ، وأتى بضمير الجمع ؛ لأن من المعلوم أنه لا بد في الحاضرين من يشابه حنظلة في ذلك ، ولم يقل نافقنا لئلا يتوهم العموم الشامل للخصوص ( يذكرنا ) : بالتشديد أي : يعظنا ( بالنار ) : أي : بعذابها تارة ( والجنة ) : أي : بنعيمها أخرى ترهيبا وترغيبا ، أو يذكرنا الله بذكرهما ، أو بقربهما ، أو بكونهما من آثار صفتي الجلال والجمال ، ( كأنا ) : أي : حتى صرنا كأنا ( رأي عين ) : بالنصب أي : كأنا نرى الله ، أو الجنة والنار رأي عين ، فهو مفعول مطلق بإضمار نرى ، وفي نسخة بالرفع أي : كأنا راؤنا بالعين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل ، ويصح [ ص: 1550 ] كونه الخبر للمبالغة كرجل عدل ( فإذا خرجنا ) : أي : فارقناه على وصف التفرقة ( من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد ) : أي : خالطناهم ولاعبناهم وعالجنا أمورهم واشتغلنا بمصالحهم ( والضيعات ) : أي : الأراضي والبساتين . وقال الطيبي : ضيعة الرجل ما يكون معاشه به كالزراعة والتجارة ونحوها ( نسينا ) : بدل اشتمال من عافسنا ، أو على جواب إذا ، وجملة عافسنا بتقدير قد حال ، والمعنى نسينا كثيرا كما في نسخة صحيحة أي : ما ذكرنا به وقيل : أي : نسيانا كثيرا .

( قال أبو بكر ) : إذا قلت ذلك وذكرت بيانه ( فوالله إنا لنلقى ) : أي : كلنا ( مثل هذا ) : أي : من التفاوت في الحال لما تقرر من تأثير صحبة أهل الكمال ( فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ ) : أي : وما سبب ذلك القول ؟ ( قلت : يا رسول الله ! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا ) . قال الطيبي : أي : كثيرا مما ذكرتنا به ، أو نسيانا كثيرا كأنا ما جمعنا منك شيئا قط ، وهذا أنسب بقوله : رأي عين . ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لو تدومون ) : أي : في حال غيبتكم مني ( على ما تكونون عندي ) : أي : من صفاء القلب والخوف من الله تعالى ، قاله الطيبي ، أو من دوام الذكر وتمام الحضور فيكون قوله : ( وفي الذكر ) : معطوفا على قوله : " على ما تكونون " عطف تفسير . وقال الطيبي : عطف على خبر كان الذي هو عندي ، وقال ابن الملك : الواو بمعنى ( أو ) عطف على قوله : ما تكونون ، أو على عندي أي لو تدومون في الذكر ، أو على ما تكونون في الذكر وأنتم بعداء مني من الاستغراق فيه ، ( لصافحتكم الملائكة ) : قيل : أي : علانية ، وإلا فكون الملائكة يصافحون أهل الذكر حاصل . وقال ابن حجر : أي : عيانا في سائر الأحوال ، وإن كنتم ( على فرشكم وفي طرقكم ) : أي : في حالتي فراغكم وشغلكم ، وفي زمان أيامكم ولياليكم ؛ لأنكم إذا كنتم في الحضور والغيبة على ما ذكرتم كنتم على أكمل الأحوال دائما ، ومن هو كذلك مع الموانع البشرية والقواطع النفسية يرى الملائكة متبركين به ، معظمين له في كل من الأمكنة والأزمنة . قال الطيبي : المراد الدوام . ( ولكن يا حنظلة ساعة ) : أي : كذا يعني المنافسة ( وساعة ) : أي : كذا يعني المعافسة . وفي المصابيح : ساعة فساعة .

قال ابن الملك : الفاء في الساعة الثانية للإيذان بأن إحدى الساعتين معقبة بالأخرى ، وفي بعض النسخ بالواو اهـ . يعني لا يكون الرجل منافقا بأن يكون في وقت على الحضور وفي وقت على الفتور ، فمن ساعة الحضور تؤدون حقوق ربكم ، وفي ساعة الفتور تقضون حظوظ أنفسكم ، ويحتمل أن يكون قوله : ساعة وساعة للترخيص أو للتحفظ لئلا تسأم النفس عن العبادة . وحاصله أن يا حنظلة هذه المداومة على ما ذكر مشقة لا يطيقها كل أحد فلم يكلف بها ، وإنما الذكر يطيقه الأكثرون أن يكون الإنسان على هذه الحالة ساعة ، ولا عليه بأن يصرف نفسه للمعافسة المذكورة وغيرها ساعة أخرى ، وأنت كذلك فأنت على الصراط المستقيم ، ولم يحصل منك نفاق قط كما توهمته ، فانته عن اعتقاد ذلك فإنه مما يدخله الشيطان على السالكين ، حتى يغيرهم عما هم فيه ، ثم لا يزال يغيرهم كذلك إلى أن يتركوا العمل رأسا ( ثلاث مرات ) : أي : قال ذلك ثلاث مرات ، وهو يحتمل أن يكون قوله : والذكر إلخ . أو قوله : ولكن إلخ . أو قوله : ساعة وساعة ، وإنما اختار الطيبي الأخير لتحققه ، وهذا يدل على تحقيقه ، فاندفع قول ابن حجر ، وتعيين الشارح لا دليل عليه .

أقول : ونظير هذا المبحث وقوع الاستثناء بعد الجمل ، فإنه راجع عند أئمتنا المحققين إلى الجملة الأخيرة ، بخلاف مذهب الشافعي ، فإنه يعود إلى جميع ما ذكر ، كما حقق في قوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ ص: 1551 ] وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك فتقبل شهادة القاذف عنده بعد التوبة ولا تقبل عندنا . وقوله : أبدا يؤيد أن ثلاث مرات للتأكيد ولإزالة ما اهتم به نفس حنظلة عنه ، ولبيان أنهم لا يقدرون على دوام الحضور من غير الفتور .

قال الطيبي : أي : قال ثلاث مرات ساعة يكون في الذكر والحضور ، وساعة في معافسة الأزواج وغيرها ، وفي ذلك تقرير على الحالة التي كان حنظلة عليها وأنكرها ، ومن ثمة ناداه باسمه تنبيها على أنه كان ثابتا على الصراط المستقيم ، وما نافق قط أي : النفاق العرفي وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وإنما أراد بقوله : نافق حنظلة ، إما المعنى اللغوي ، وهو أن يكون عنده - صلى الله عليه وسلم - على حالة وعند غيره على حالة أخرى ، وإما التشبيه الحالي ؛ لأن حاله يشبه حال المنافق لعدم استمراره على مقام المواقف . ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية