الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
224 - " أحبوا الله؛ لما يغذوكم به من نعمه؛ وأحبوني لحب الله؛ وأحبوا أهل بيتي لحبي " ؛ (ت ك) ؛ عن ابن عباس ؛ (صح).

التالي السابق


(أحبوا) ؛ بفتح الهمزة؛ وكسر المهملة؛ (الله) ؛ وجوبا؛ (لما) ؛ أي: لأجل ما؛ (يغذوكم) ؛ بفتح المثناة تحت؛ وسكون المعجمة؛ وضم المعجمة؛ (به) ؛ من الغذاء؛ بالكسر؛ كـ " كساء" ؛ ما به نماء الجسم وقوامه؛ وهو أعم من الغداء؛ بالفتح؛ إذ كل غذاء غداء؛ ولا عكس؛ وفي رواية: " لما يرفدكم به" ؛ (من نعمه) ؛ أي: أحبوا الله لأجل إنعامه عليكم بصنوف النعم؛ وضروب الآلاء الحسية؛ كتيسير ما يتغذى به من الطعام والشراب؛ والمعنوية كالتوفيق والهداية ونصب أعلام المعرفة؛ وخلق الحواس؛ وإفاضة أنوار اليقين على القلب؛ وغير ذلك من الأغذية الروحانية المعلوم تفصيلها عند علماء الآخرة؛ قال ابن عطاء الله: ما من وقت ولحظة إلا وهو مورد عليك فيها نعما يجب حبه لها؛ وشكره عليها دائما؛ فمتى فات حق وقت لا يمكن قضاؤه أبدا؛ إذ ما من وقت إلا وله عليك فيه حق جديد؛ وهو الشكر؛ وأمر أكيد؛ وهو الاستغفار والتجريد؛ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ؛ قال بعض العارفين: " أحبوا الله" ؛ فعل أمر بمعنى الخبر؛ ومثله غير عزيز؛ ومن كلامهم: " عش رجبا؛ تر عجبا" ؛ أي: إن تعش إلى رجب؛ والعيش ليس للمرء فيؤمر به؛ فهو من قبيل خبر " وجدت الناس: اخبر تقله" ؛ فالمراد إنما تحبونه لأنه أنعم عليكم؛ فأحبكم؛ فأحببتموه؛ قال الزمخشري : و" النعمة" : كل نفع قصد به الإحسان؛ والله - سبحانه وتعالى - خلق العالم كله نعمة؛ لأنه إما حيوان؛ أو غيره؛ فغير الحيوان نعمة على الحيوان؛ والحيوان نعمة؛ من حيث إن إيجاده حيا نعمة عليه؛ لأنه لولا إيجاده حيا لما صح الانتفاع به؛ وكلما أدى إلى الانتفاع؛ وصححه؛ فهو نعمة؛ وقال الفخر الرازي: نعم الله - سبحانه وتعالى - لا تحصى؛ لأن كل ما أودع فينا مع المنافع واللذات التي ننتفع بها؛ والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع؛ ودفع المضار؛ وما خلق في العالم؛ مما يستدل به على وجود الصانع؛ وما أوجد فيه مما لا يحصل الزجر برؤيته عن المعاصي؛ مما لا يحصى عدده؛ كله منافع؛ لأن المنفعة من اللذة؛ أو ما يكون وسيلة إليها؛ وجميع ما خلق الله كذلك؛ لأن كل ما يلتذ به نعمة؛ وكل ما لا يلتذ به وسيلة إلى دفع ضر؛ وهو كذلك؛ وما لا يكون جالبا للنفع الحاضر؛ ولا دافعا للضرر؛ هو صالح للاستدلال به على وجود الصانع الحكيم؛ يقع وسيلة إلى معرفته وطاعته؛ وهما وسيلتان للذات الأبدية؛ فثبت أن جميع مخلوقاته نعمة على العبيد.

(تنبيه) : هل لله (تعالى) نعمة على الكافر في الدنيا؟ اختلف فيه أهل السنة؛ فقيل: لا؛ لأن هذه النعمة لما كانت مؤدية للضرر الدائم الأخروي؛ كانت كـ " لا شيء" ؛ وقيل: نعم؛ وعليه الباقلاني؛ قال الإمام الرازي: وهو الأصوب؛ وآية: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ؛ فهذا صريح في أنه أنعم عليهم؛ إذ المخاطب بذلك أهل الكتاب؛ (وأحبوني لحب الله) ؛ أي: إنما تحبونني لأنه - سبحانه وتعالى - أحبني؛ فوضع محبتي فيكم؛ كما يصرح به خبر: " إذا أحب الله [ ص: 178 ] عبدا؛ نادى جبريل..." ؛ الحديث؛ والمحبة إذا كانت بشرط النعمة كانت معلولة ناقصة؛ وكان مرجعها إلى حظ المحب؛ لا إلى المحبوب؛ والنعم كلها؛ أو أكثرها ملاذ النفوس؛ ومن أحب اللذة تغير عند المكروه بعدمها؛ وفوت حظ النفس منها؛ ألا ترى أن محبة زليخا ليوسف لما كانت لشهوة؛ آثرت ألمه على ألمها؛ عند فوت حظها منه؛ وأما النسوة فغبن عن حظوظ أنفسهن فقطعن أيديهن بلا إحساس؟ (وأحبوا أهل بيتي لحبي) ؛ أي: إنما تحبونهم لأني أحببتهم بحب الله (تعالى) لهم؛ وقد يكون أمرا بحبهم لأن محبتهم لهم تصديق للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ؛ وبما تقرر عرف أن محبة العبد لله لا تحتاج إلى تأويل؛ بخلاف عكسه؛ قال الغزالي: محبة العبد لله حقيقية؛ لا مجازية؛ إذ المحبة في وضع أهل اللسان: ميل النفس إلى ملائم موافق؛ و" العشق" : الميل الغالب المفرط؛ والله - سبحانه وتعالى - محسن جميل؛ والإحسان والجمال موافق؛ ومحبة الله للعبد مجازية؛ ترجع إلى كشف الحجاب؛ حتى يراه بقلبه؛ إلى تمكينه إياه من القرب منه؛ وفي شرح المواقف: محبتنا لله (تعالى) كيفية روحانية مترتبة على تصور الكمال المطلق له (تعالى)؛ على الاستمرار؛ ومقتضية إلى التوجه التام لحضرة قدسه؛ بلا فتور؛ ولا فرار؛ ومحبتنا لغير الله كيفية تترتب على تخيل كمال فيه؛ من لذة وشفقة؛ أو مشاكلة كمحبة العاشق لمعشوقه؛ والوالد لولده؛ ثم هي عندنا الرضا والإرادة؛ مع ترك الاعتراض؛ وقيل: الإرادة فقط؛ فيترتب عليه؛ كما في الإرشاد؛ أنه (تعالى) لا تتعلق به محبة على الحقيقة؛ لأنها إرادة؛ والإرادة لا تتعلق إلا بمحدود؛ وهو - سبحانه وتعالى - لا حد له؛ لأن المريد إنما يريد ما ليس بكائن؛ أو إعدام ما يجوز عدمه؛ وما ثبت قدمه واستحال عدمه لا تتعلق به إرادة؛ أهـ.

(ت) ؛ في المناقب؛ (ك)؛ في فضائل أهل البيت؛ (عن ابن عباس ) ؛ وصححاه؛ وأقره الذهبي في التلخيص؛ وقول ابن الجوزي : هو غير صحيح؛ وهموه فيه؛ نعم؛ فيه عبد الله بن سليمان النوفلي؛ قال في الميزان: فيه جهالة ما؛ ثم أورد له هذا الحديث؛ ولم يرمز المصنف - رحمه الله - له بشيء.



الخدمات العلمية