الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        265 235 - وأما حديثه عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أنها قالت : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا ، فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا ، قالت عائشة : فقلت : يا رسول الله ، أتنام قبل أن توتر ؟ فقال : يا عائشة ، إن عيني تنامان ولا ينام قلبي .

                                                                                                                        [ ص: 236 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 236 ] 6579 - وفي هذا الحديث البيان بأن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وغيره كانت سواء .

                                                                                                                        6580 - وقد مضى القول في قيام رمضان .

                                                                                                                        6581 - وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة ، وقد روي ثلاث عشرة ركعة .

                                                                                                                        6582 - واحتج العلماء على أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود ، والصلاة خير موضوع ، فمن شاء استقل ، ومن شاء استكثر .

                                                                                                                        6583 - وروى يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة كان يصلي ثمان ركعات وأربع ركعات ، ويوتر بركعة واحدة .

                                                                                                                        6584 - وروى الدراوردي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، تسعا قائما واثنتين جالسا واثنتين بين النداءين .

                                                                                                                        6585 - وحديث مالك أثبت من هذين الحديثين .

                                                                                                                        6586 - وأما قوله يصلي أربعا ثم يصلي ثلاثا .

                                                                                                                        6587 - فذهب قوم إلى أن الأربع لم يكن بينها سلام وكذلك الأربع بعدها .

                                                                                                                        6588 - وقال آخرون : لم يجلس إلا في آخر الأربع ، ثم في الأربع ، ثم أوتر بثلاث .

                                                                                                                        [ ص: 237 ] 6589 - وذهب فقهاء الحجاز وبعض أهل العراق إلى أنه كان يسلم في كل ركعتين منها ، على ظاهر قوله : " صلاة الليل مثنى مثنى " .

                                                                                                                        6590 - فمن ذهب إلى هذا تأول في قوله : يصلي أربعا ثم أربعا أي حسنهن وطولهن ورتل القرآن فيهن ، وكذلك أيضا فعل في الأربع بعدهن حسنهن وطولهن ، ثم الثلاث بعدهن لم يبلغ فيهن من الطول ذلك المبلغ لكنه سلم في كل ركعتين من صلاته تلك كلها .

                                                                                                                        6591 - فهذا معنى أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا عند هؤلاء .

                                                                                                                        6592 - وحجتهم : صلاة الليل مثنى مثنى ، ولا يقال للظهر ولا للعصر مثنى وإن كان فيها جلوس .

                                                                                                                        6593 - واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل أن مالكا ، والشافعي ، وابن أبي ليلى ، وأبا يوسف ، ومحمدا قالوا في صلاة الليل : مثنى مثنى ، والحجة لهم ما قدمنا من تسليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته بالليل من كل ركعتين ، وقوله : " صلاة الليل مثنى مثنى " .

                                                                                                                        6594 - وذلك يقتضي الجلوس والتسليم في كل ركعتين .

                                                                                                                        6595 - وقال أبو حنيفة في صلاة الليل : إن شئت ركعتين ، وإن شئت أربعا ، وإن شئت ستا وثمانيا لا تسليم إلا في آخرهن .

                                                                                                                        6596 - وقال الثوري والحسن بن حيي : صل بالليل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن .

                                                                                                                        6597 - وحجة هؤلاء ظواهر الأحاديث عن عائشة .

                                                                                                                        6598 - منها : حديثها هذا أربعا ، ثم أربعا ، ثم ثلاثا .

                                                                                                                        6599 - ومنها : ما رواه الأسود ، عن عائشة أنها قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل تسع ركعات ، فلما أسن صلى سبع ركعات .

                                                                                                                        [ ص: 238 ] 6600 - وقال مسروق عنها : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع فلما أسن أوتر بسبع .

                                                                                                                        6601 - ويحيى بن الجزار ، عن عائشة مثله على اختلاف عن يحيى في ذلك .

                                                                                                                        6602 - وروى ابن نمير ، ووهيب وطائفة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة منهن .

                                                                                                                        6603 - قال أبو عمر : أما حديث هشام بن عروة هذا فقد أنكره مالك ، وقال : مذ صار هشام بالعراق أتانا عنه ما لم نعرف منه .

                                                                                                                        [ ص: 239 ] 6604 - وأما سائر الأحاديث فمحتملة للتأويل ويقضي عليها قوله : " صلاة الليل مثنى مثنى " مع حديث ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ويسلم من كل اثنتين .

                                                                                                                        6605 - وقد ذكرنا من روى عن ابن شهاب هذا الحديث كما وصفنا من ثقات أصحابه .

                                                                                                                        6606 - قال أبو عمر في معنى قوله أيضا في حديث هذا الباب أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا وجه رابع ، وهو أنه كان ينام بعد الأربع ثم ينام بعد [ ص: 240 ] الأربع ، ثم يقوم فيوتر بثلاث .

                                                                                                                        6607 - واحتج من قال بذلك بحديث ابن أبي مليكة ، عن يعلى بن مملك ، عن أم سلمة أنها وصفت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل وقراءته فقالت : كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ، ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى . ونعتت قراءاته حرفا حرفا .

                                                                                                                        6608 - وزاد بعضهم فيه : ثم يقوم فيصلي ويوتر .

                                                                                                                        6609 - رواه الليث بن سعد وغيره عن ابن أبي مليكة .

                                                                                                                        6610 - وأما قولها : أتنام قبل أن توتر يا رسول الله ؟ فقيل : إن عائشة لم تعرف النوم قبل الوتر ; لأن أباها أبا بكر - رضي الله عنه - كان لا ينام حتى يوتر ، وكان يوتر أول الليل .

                                                                                                                        6611 - وهذا عنه محفوظ معلوم قد ذكرنا الخبر به في موضعه .

                                                                                                                        6612 - فلذلك - والله أعلم - قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتنام قبل أن توتر ؟ لأنها رأت أباها لا يفعل ذلك وكانت صبية فيها يقظة .

                                                                                                                        6613 - أما قوله - صلى الله عليه وسلم - جوابا لها : " إن عيني تنامان ولا ينام قلبي " فتلك من علياء مراتب الأنبياء صلوات الله عليهم .

                                                                                                                        6614 - وذلك روي عنه أنه قال : " إنا - معشر الأنبياء - تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا " .

                                                                                                                        6615 - ولهذا - والله أعلم - قال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي ; لأن الأنبياء يفارقون سائر البشر في نوم القلب ويساووهم في نوم العين ، ولو تسلط [ ص: 241 ] النوم على قلوبهم كما يصنع بغيرهم لم تكن رؤياهم إلا كرؤيا من سواهم ، وقد خصهم الله من فضله بما شاء أن يخصهم به .

                                                                                                                        6616 - ومن هذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام حتى ينفخ ثم يصلي ولا يتوضأ ; لأن الوضوء من النوم إنما يجب لغلبة النوم على القلب لا على العين .

                                                                                                                        6617 - فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يساوي أمته في الوضوء من الحدث ولا يساويهم في الوضوء من النوم ، كما لم يساويهم في وصال الصوم وغيره مما جرت عادتهم به .

                                                                                                                        6618 - فإن قيل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من النوم ، قيل : كان يتوضأ لكل صلاة وما جاء عنه قط أنه قال : وضوئي هذا من النوم ، وليس ببعيد أن يتوضأ إذا خامر النوم قلبه ، وذلك نادر ، كنومه في سفره عن صلاة الصبح ليسن لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت ، وإن كان مغلوبا بنوم أو نسيان ، وهذا واضح والله المستعان .

                                                                                                                        6619 - روى حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نام حتى سمع غطيطه ، ثم صلى ولم يتوضأ .

                                                                                                                        6620 - قال عكرمة : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محفوظا
                                                                                                                        .

                                                                                                                        6621 - وإن ذلك كان منه نادرا ليس لأمته كما سن فيمن نام أو نسي ، وكما قال " إني لأنسى لأسن " .

                                                                                                                        6622 - وذكر عبد الرزاق وأبو سفيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 242 ] " قيل لي : لتنم عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك ، فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني " . وذكر الحديث .

                                                                                                                        6623 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا في " التمهيد " وتقدم عنه في باب " النوم عن الصلاة ليلة الوادي " ما فيه كفاية ، والحمد لله .




                                                                                                                        الخدمات العلمية