الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الموضع الثالث

في التشطير

واتفقوا اتفاقا مجملا أنه إذا طلق قبل الدخول وقد فرض صداقا أنه يرجع عليها بنصف الصداق لقوله تعالى : ( فنصف ما فرضتم ) الآية .

والنظر في التشطير في أصول ثلاثة : في محله من الأنكحة ، وفي موجبه من أنواع الطلاق ( أعني : الواقع قبل الدخول ) ، وفي حكم ما يعرض له من التغييرات قبل الطلاق .

أما محله من النكاح عند مالك : فهو النكاح الصحيح ( أعني : أن يكون يقع الطلاق الذي قبل الدخول في النكاح الصحيح ) . وأما النكاح الفاسد ، فإن لم تكن الفرقة فيه فسخا وطلق قبل الفسخ ففي ذلك قولان .

وأما موجب التشطير : فهو الطلاق الذي يكون باختيار من الزوج لا باختيار منها ، مثل الطلاق الذي يكون من قبل قيامها بعيب يوجد فيه .

واختلفوا من هذا الباب في الذي يكون سببه قيامها عليه بالصداق أو النفقة مع عسره ، ولا فرق بينه وبين القيام بالعيب .

وأما الفسوخ التي ليست طلاقا : فلا خلاف أنها ليست توجب التشطير إذا كان فيها الفسخ من قبل العقد أو من قبل الصداق ، وبالجملة من قبل عدم موجبات الصحة ، وليس لها في ذلك اختيار أصلا .

وأما الفسوخ الطارئة على العقد الصحيح مثل الردة والرضاع : فإن لم يكن لأحدهما فيه اختيار ; أو كان لها دونه لم يوجب التشطير . وإن كان له فيه اختيار مثل الردة أوجب التشطير . والذي يقتضيه مذهب أهل الظاهر أن كل طلاق قبل البناء فواجب أن يكون فيه التنصيف ، سواء كان من سببها أو سببه ، وأن ما كان فسخا ولم يكن طلاقا فلا تنصيف فيه .

وسبب الخلاف : هل هذه السنة معقولة المعنى أم ليست بمعقولة .

فمن قال إنها معقولة المعنى ; وأنه إنما وجب لها نصف الصداق عوض ما كان لها لمكان الجبر على رد سلعتها ; وأخذ الثمن ; كالحال في المشترى ; فلما فارق النكاح في هذا المعنى البيع جعل لها هذا عوضا [ ص: 412 ] من ذلك الحق قال : إذا كان الطلاق من سببها لم يكن لها شيء ، لأنها أسقطت ما كان لها من جبره على دفع الثمن وقبض السلعة .

ومن قال : إنها سنة غير معقولة واتبع ظاهر اللفظ قال : يلزم التشطير في كل طلاق كان من سببه أو سببها .

فأما حكم ما يعرض للصداق من التغيرات قبل الطلاق : فإن ذلك لا يخلو أن يكون من قبلها أو من الله :

فما كان من قبل الله فلا يخلو من أربعة أوجه : إما أن يكون تلفا للكل ، وإما أن يكون نقصا ، وإما أن يكون زيادة ، وأما أن يكون زيادة ونقصا معا .

وما كان من قبلها : فلا يخلو أن يكون تصرفها فيه بتفويت مثل البيع والعتق والهبة ، أو يكون تصرفها فيه في منافعها الخاصة بها أو فيما تتجهز به إلى زوجها . فعند مالك أنهما في التلف وفي الزيادة وفي النقصان شريكان . وعند الشافعي أنه يرجع في النقصان والتلف عليها بالنصف ولا يرجع بنصف الزيادة .

وسبب اختلافهم : هل تملك المرأة الصداق قبل الدخول أو الموت ملكا مستقرا أو لا تملكه ؟

فمن قال : إنها لا تملكه ملكا مستقرا قال : هما فيه شريكان ما لم تتعد فتدخله في منافعها .

ومن قال تملكه ملكا مستقرا والتشطير حق واجب تعين عليها عند الطلاق وبعد استقرار الملك ; أوجب الرجوع عليها بجميع ما ذهب عندها ; ولم يختلفوا أنها إذا صرفته في منافعها ضامنة للنصف .

واختلفوا إذا اشترت به ما يصلحها للجهاز مما جرت به العادة هل يرجع عليها بنصف ما اشترته أم بنصف الصداق الذي هو الثمن ؟ فقال مالك : يرجع عليها بنصف ما اشترته . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : يرجع عليها بنصف الثمن الذي هو الصداق .

واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور متعلق بالسماع وهو : هل للأب أن يعفو عن نصف الصداق في ابنته البكر ؟ ( أعني : إذا طلقت قبل الدخول ) وللسيد في أمته ؟ فقال مالك : ذلك له . وقال أبو حنيفة والشافعي : ليس ذلك له .

وسبب اختلافهم : هو الاحتمال الذي في قوله تعالى : ( إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) وذلك في لفظة " يعفو " فإنها تقال في كلام العرب مرة بمعنى يسقط ، ومرة بمعنى يهب . وفي قوله : ( الذي بيده عقدة النكاح ) على من يعود هذا الضمير ؟ هل على الولي أو على الزوج ؟ فمن قال : على الزوج جعل " يعفو " بمعنى يهب . ومن قال : على الولي جعل " يعفو " بمعنى يسقط . وشذ قوم فقالوا : لكل ولي أن يعفو عن نصف الصداق الواجب للمرأة .

ويشبه أن يكون هذان الاحتمالان اللذان في الآية على السواء ، لكن من جعله الزوج فلم يوجب حكما زائدا في الآية ( أي : شرعا زائدا ) ، لأن جواز ذلك معلوم من ضرورة الشرع . ومن جعله الولي : إما الأب وإما غيره فقد زاد شرعا ، فلذلك يجب عليه أن يأتي بدليل يبين به أن الآية أظهر في الولي منها في الزوج ، وذلك شيء يعسر .

والجمهور على أن المرأة الصغيرة والمحجورة ليس لها أن تهب من صداقها النصف الواجب لها . وشذ [ ص: 413 ] قوم فقالوا : يجوز أن تهب ، مصيرا لعموم قوله تعالى : ( إلا أن يعفون ) .

واختلفوا من هذا الباب في المرأة إذا وهبت صداقها لزوجها ثم طلقت قبل الدخول : فقال مالك : ليس يرجع عليها بشيء . وقال الشافعي : يرجع عليها بنصف الصداق .

وسبب الخلاف : هل النصف الواجب للزوج بالطلاق هو في عين الصداق ; أو في ذمة المرأة ؟ فمن قال : في عين الصداق قال : لا يرجع عليها بشيء ، لأنه قبض الصداق كله . ومن قال : هو في ذمة المرأة قال : يرجع وإن وهبته له ، كما لو وهبت له غير ذلك من مالها . وفرق أبو حنيفة في هذه المسألة بين القبض ولا قبض ، فقال : إن قبضت فله النصف وإن لم تقبض حتى وهبت فليس له شيء ، كأنه رأى أن الحق في العين ما لم تقبض ، فإذا قبضت صار في الذمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية