الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3161 3162 3163 3164 ص: حدثنا ابن أبي عمران ، قال : ثنا علي بن صالح وبشر بن الوليد ، جميعا عن أبي يوسف قال : "قدمت المدينة فأخرج إلي من أثق به صاعا ، فقال : هذا صاع النبي - عليه السلام - . فقدرته فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل " .

                                                وسمعت ابن أبي عمران يقول : يقال : إن الذي أخرج هذا لأبي يوسف هو مالك بن أنس -رحمه الله- .

                                                [ ص: 252 ] وسمعت أبا خازم يذكر أن مالكا سئل عن ذلك فقال : هو تحري عبد الملك لصاع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .

                                                فكأن مالكا لما ثبت عنده أن عبد الملك تحرى ذلك من صاع عمر - رضي الله عنه - ، وصاع عمر صاع النبي - عليه السلام - ، وقد قدر صاع عمر - رضي الله عنه - على خلاف ذلك .

                                                فحدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا يعقوب بن حميد ، قال : ثنا وكيع ، عن علي بن صالح ، عن أبي إسحاق ، عن موسى بن طلحة قال : "الحجاجي صاع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - " .

                                                حدثنا أحمد ، قال : ثنا يعقوب ، قال : ثنا وكيع ، عن أبيه ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : "عيرنا الصاع فوجدنا حجاجيا ، والحجاجي عندهم ثمانية أرطال بالبغدادي " .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا سفيان بن بشر الكوفي ، قال : ثنا شريك ، عن مغيرة وعبيدة ، عن إبراهيم قال : "وضع الحجاج قفيزه على صاع عمر - رضي الله عنه - " .

                                                فهذا أولى مما ذكره مالك من تحري عبد الملك ; لأن التحري ليس معه حقيقة ، وما ذكره إبراهيم وموسى بن طلحة من العيار معه حقيقة ; فهذا أولى ، والله أعلم .

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا إلى أن أبا يوسف قد احتج لما ذهب إليه أيضا بما وقف عليه من صاع النبي - عليه السلام - بإخراجه إليه من يثق به ، ثم أشار إلى ترجيح ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله .

                                                أما الأول : فأخرجه عن أحمد بن أبي عمران الفقيه البغدادي عن علي بن صالح [ . . . ] وبشر بن الوليد بن خالد بن الوليد الكندي القاضي ، أحد أصحاب أبي يوسف خاصة ، وأحد الأئمة الأعلام ، الثقة المأمون ، كلاهما عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي ، أكبر أصحاب أبي حنيفة قال : "قدمت . . . " إلى آخره .

                                                [ ص: 253 ] وأخرج البيهقي في "سننه " : من طريق الحسن بن منصور ، نا الحسن بن الوليد قال : "قدم علينا أبو يوسف من الحج فأتيناه ، فقال : إني أريد أن أفتح عليكم بابا من العلم همني ففحصت عنه ; قدمت المدينة فسألت عن الصاع ، فقالوا : صاعنا هذا صاع رسول الله - عليه السلام - . قلت لهم : ما حجتكم في ذلك ؟ قالوا : نأتك بالحجة [غدا ] ، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه ، كل رجل منهم يخبر عن أبيه أو أهل بيته : أن هذا صاع رسول الله - عليه السلام - ، فنظرت فإذا هي سواء .

                                                قال : فعيرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير ، فرأيت أمرا قويا ، فقد تركت قول أبي حنيفة ، في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة " .

                                                وأخرج أيضا : عن محمد بن عبد الوهاب الفراء ، سمعت أبي يقول : "سأل أبو يوسف مالكا عند أمير المؤمنين عن الصاع كم هو رطلا ؟ قال : السنة عندنا أن الصاع لا يرطل ففحمه " .

                                                قال محمد بن عبد الوهاب : وسمعت الحسين بن الوليد يقول : قال أبو يوسف : "فقدمت المدينة فجمعنا أبناء أصحاب رسول الله - عليه السلام - ودعوت بصاعاتهم ، فكل حدثني عن آبائهم ، عن رسول الله - عليه السلام - أن هذا صاعه ، فقدرتها فوجدتها مستوية ، فتركت قول أبي حنيفة ورجعت إلى هذا " .

                                                قوله : "فأخرج إلي من أثق به " قد بينه أحمد بن أبي عمران بقوله : "يقال : إن الذي أخرج هذا لأبي يوسف هو مالك بن أنس -رحمه الله- .

                                                قوله : "وسمعت أبا خازم " بالخاء والزاي المعجمتين ، واسمه عبد الحميد بن عبد العزيز البصري ، أحد أصحاب أبي حنيفة ، وحكايته عن مالك منقطعة ; لأنه لم يدركه . وأراد بعبد الملك هو ابن مروان بن الحكم أمير المؤمنين .

                                                [ ص: 254 ] وأما الثاني : فهو قوله : وقد قدر صاع عمر - رضي الله عنه - على خلاف ذلك أي على خلاف ما روي عن مالك ، فأخرجه من ثلاث وجوه :

                                                الأول : عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضا ، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه والبخاري في غير الصحيح ، وعن يحيى : ثقة . وعن ابن معين : ليس بشيء ، وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث . وقال ابن عدي : لا بأس به وبرواياته .

                                                عن وكيع بن الجراح روى له الجماعة ، عن علي بن صالح بن صالح بن حي الهمداني أبي الحسن الكوفي روى له الجماعة إلا البخاري ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة ، عن موسى بن طلحة بن عبيد الله أبي عيسى التيمي المدني ، روى له الجماعة .

                                                وأخرجه ابن حزم في "المحلى " : من طريق أحمد بن يونس ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن موسى بن طلبة : "أن القفيز الحجاجي قفيز عمر أو صاع عمر " .

                                                ثم طعن ابن حزم أن فيه مجهولا ، ورواية الطحاوي ليس فيها مجهول .

                                                الثاني : عن أحمد بن داود أيضا ، عن يعقوب بن حميد أيضا ، عن وكيع بن الجراح ، عن أبيه الجراح بن مليح الكوفي روى له الجماعة سوى النسائي ، البخاري في غير "الصحيح " .

                                                عن مغيرة بن مقسم الضبي أبي هاشم الكوفي الفقيه الأعمى روى له الجماعة ، عن إبراهيم النخعي .

                                                الثالث : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن سفيان بن بشر بن أيمن بن غالب الأسدي الكوفي ذكره ابن يونس وقال : كوفي قدم مصر ، وسكت عنه .

                                                [ ص: 255 ] عن شريك بن عبد الله النخعي ، عن مغيرة بن مقسم الضبي ، وعن عبيدة بن معتب الضبي الكوفي فيه مقال ، استشهد به البخاري ، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه .

                                                كلاهما يرويان عن إبراهيم النخعي .

                                                قوله : "الحجاجي " أي : الصاع الحجاجي ، وهو نسبة إلى حجاج بن يوسف الثقفي ، وهو الذي وضع الصاع الذي هو ثمانية أرطال على صاع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .

                                                قوله : "قفيزه " القفيز بفتح القاف وكسر الفاء ، قال الجوهري : القفيز مكيال وهو ثمانية مكاكيك ، والجمع : أقفزة وقفزان .

                                                وقال ابن الأثير : القفيز مكيال يتواضع الناس عليه وهو عند أهل العراق ثمانية مكاكيك .

                                                قوله : "فهذا أولى " أي الحجاجي الذي هو على صاع عمر - رضي الله عنه - أولى مما ذكره مالك ; لأن فيما ذكره تحري عبد الملك بن مروان ، وليس في التحري حقيقة ، وما ذكره إبراهيم النخعي وموسى بن طلحة من العيار فيه حقيقة ، فهذا أولى ، والله أعلم .

                                                فإن قيل : قال ابن حزم : وهذه الآثار ولئن سلمنا صحتها- ولكنها لا تنفعهم ; لأنا لا ننازعهم في صاع عمر - رضي الله عنه - ولا في قفيزه ، إنما ننازعهم في صاع النبي - عليه السلام - ، ولسنا ندفع أن يكون لعمر - رضي الله عنه - صاع وقفيز ومد ، رتبه لأهل العراق لنفقاتهم وأرزاقهم كما بمصر الويبة والأردب ، وبالشام المد .

                                                قلت : الجواب عنه ما ذكرنا من أنه لم ينقل ذلك بنقل صحيح أن عمر - رضي الله عنه - وضع صاعا دون صاع النبي - عليه السلام - ، ولئن سلمنا أنه فعل ذلك فالظاهر أن الحجاج إنما وضع قفيزه على صاع عمر الذي هو كان على صاع النبي - عليه السلام - .




                                                الخدمات العلمية