الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          القسم الثاني : ما حرم من جهة الرضاعة وهو أنواع كالنسب بينها - تعالى - بقوله وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة فسمى المرضعة أما للرضيع ، وبنتها أختا له ، فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاعة كجهة النسب تأتي فيها الأنواع التي جاءت في النسب كلها ، وقد فهم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لما أريد على ابنة عمه حمزة ، أي أن يتزوجها : إنها لا تحل لي ، إنها ابنة أخي من الرضاعة ، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب رواه الشيخان من حديث ابن عباس ، ورويا من حديث عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة وفي صحيحهما أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ائذني لأفلح أخي أبي القعيس فإنه عمك وكانت امرأته أرضعت عائشة . وعلى هذا جرى جماهير المسلمين جيلا بعد جيل ، فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله ، وفروعه ، ولو من غير المرضعة ; لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه أي الرضيع ، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما [ ص: 384 ] جارية ( أي بنتا ) ، والأخرى غلاما ، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية ؟ " قال : لا ! اللقاح واحد " رواه البخاري في صحيحه ، ولولا هذه الأحاديث لما فهمنا من الآية إلا أن التحريم خاص بالمرضعة ، وينتشر في أصولها ، وفروعها لتسميتها أما ، وتسمية بنتها أختا ، ولا يلزم من ذلك أن يكون زوجها أبا من كل وجه بأن تحرم جميع فروعه من غير المرضعة على ذلك الرضيع ، كما أن تسمية أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين لا يترتب عليه جميع الأحكام المتعلقة بالأمهات فالتسمية يراعى فيها الاعتبار الذي وضعت لأجله ، ومن رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءا منه ; لأنه تكون من لبنها فصارت في هذا كأمه التي ولدته ، وصار أولادها إخوة له ; لأن لتكوين أبدانهم أصلا واحدا هو ذلك اللبن ، وهذا المعنى لا يظهر في أولاد زوجها من امرأة أخرى إلا من بعد ، بأن يقال : إن هذا الرجل الذي كان بلقاحه سببا لتكون اللبن في المرأتين قد صار أصلا لأولادهما ، إذ في كل واحد منهما جزء من لقاحه تناوله مع اللبن فاشتركا في سبب اللبن ، أو في هذا الجزء من اللبن الذي تكون بعض بدنهما منه فكانا أخوين لا يحل أحدهما للآخر إذا كان أحدهما ذكرا ، والآخر أنثى ; ولهذا المعنى قلنا فيما سبق : إن حرمة الرضاعة تدل على حرمة بنت الزنا على والدها بالأولى .

                          وقد روي عن بعض الصحابة ، والتابعين عدم التحريم من جهة زوج المرضعة دونها . فقد صح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام . قالت زينب : وكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي ويقول : أقبلي علي فحدثيني ، أرى أنه أبي ، وما ولد منه فهم إخوتي ، إن عبد الله بن الزبير أرسل إلي يخطب أم كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير ، وكان حمزة للكلبية ، فقلت لرسوله : وهل تحل له ، وإنما هي ابنة أخته ؟ فقال عبد الله : إنما أردت بهذا المنع من قبلك ، أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك ، وما كان من غيرها فليسوا لك بإخوة ، فأرسلي فاسألي عن هذا ، فأرسلت فسألت - وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون - فقالوا لها : إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا . فأنكحتها إياه فلم تزل عنده حتى هلك عنها ، " قالوا : ولم ينكر ذلك الصحابة - رضي الله عنهم - . وروي القول بهذا - أي بأن الرضاعة من جهة المرأة لا من جهة الرجل - عن الزبير من الصحابة ، وعن بعض علماء التابعين منهم سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، وعطاء بن يسار ، وأبو قلابة ، فالمسألة لم تكن إجماعية . وقد حمل الجمهور قول المخالفين في ذلك على عدم وصول السنة الصحيحة إليهم فيه ، أو على تأويل ما وصل إليهم لقيام ما يعارض حمله على ظاهره عندهم ، ويقال على الأول : إن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وعلى الثاني إنه اجتهاد منهم عارضته عندنا النصوص الظاهرة ، ومتى ثبتت السنة الصحيحة امتنع العدول عنها [ ص: 385 ] لاجتهاد المجتهدين . وهذا ما جرى عليه علماء الإسلام في هذه المسألة وغيرها ، فقد روي عن الأعمش أنه قال : كان عمارة ، وإبراهيم ، وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسا حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس ، أي فأخذوا به ورجعوا عن رأيهم الأول .

                          فالذي جرى عليه العمل هو أن المرضعة أم لمن رضع منها ، وجميع أولادها إخوة له ، وإن تعددت آباؤهم ، وأصولها أصول له ، فتحرم عليه أمها كما تحرم بنتها وإخوتها خئولة له فتحرم عليه أخواتها . وأن زوج هذه المرضعة أب للرضيع أصوله أصول له ، وفروعه فروع له ، وإخوته عمومة له ، فيحرم عليه أن يتزوج أمه كما يحرم عليه أن يتزوج أية بنت من بناته سواء كن من مرضعته ، أو غيرها ، فإن أولاده من المرضعة إخوة أشقاء للرضيع ، ومن غيرها إخوة لأب كما أن أولادها هي من زوج آخر غير صاحب لقاح اللبن الذي رضع منه الرضيع إخوة لأم . ويحرم عليه أن يتزوج أحدا من بنات هؤلاء الإخوة ، أو الأخوات من الرضاعة ، وكذلك تحرم عليه عماته من الرضاعة ، وهن إخوة أبيه بالرضاعة ، فالسبع المحرمات بالنسب - وقد ذكرن بالتفصيل - محرمات بالرضاعة أيضا . وأما إخوة الرضيع ، وأخواته فلا يحرم عليهم أحد ممن حرم عليه ; لأنهم لم يرضعوا مثله فلم يدخل في تكوين بنيتهم شيء من المادة التي دخلت في بنيته فيباح للأخ أن يتزوج من أرضعت أخاه ، أو أمها ، أو بنتها ، ويباح للأخت أن تتزوج صاحب اللبن الذي رضع منه أخوها ، أو أختها ، أو أباه ، أو ابنه مثلا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية