الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أتم العلة الأولى أقبل على الثانية الصادة عن الطاعة القائدة إلى المعصية الملائمة للشهوة المبطلة للأعمال الموجبة للتهاون المؤدي إلى عدم المغفرة، فقال مرغبا في طاعته الموجبة للفوز الدائم ببيان قصر أيام المحنة [ ص: 264 ] وتجرع مرارات المشقة: إنما الحياة وأشار إلى دناءتها تنفيرا عنها بقوله: الدنيا ولما كان مطلق العلو موجبا لأعظم اللذاذة فكيف إذا كان موجبه الدين الضامن لدوام اللذة [موصولا] دنيويها بأخرويها، وكان اللعب ما ينشأ من زيادة البسط وينقضي بسرعة مع دلالته على الخفة كالرقص، قدمه إشارة إلى أن العاقل من يسعى في زيادة بسط يحمل على الرزانة ويدوم، وأتبعه اللهو؛ لأنه ما يستجلب به السرور كالغنا إشارة إلى أنه إن كان المراد بالدنيا زيادة بسطها فهو ينقضي بسرعة، مع ما فيه من الرعونة، وإن كان المراد أصل البسط والسرور فعندكم منه بالعلو الحاصل لكم بالجهاد ما هو في غاية العظمة والجد والثبات فلا سفه أعظم من العدول عنه إلى ما إن سر [حمل] على الطيش وانقضى بسرعة، فقال: لعب أي: أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ويسرع اضمحلاله، فيبطل من غير ثمرة ولهو أي: مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغنا وحيرة وغفلة، فإن [ ص: 265 ] تتبعوها تكفروا وتبطروا وتجترئوا على الله، [وإن تكفروا به وتجترئوا عليه] تبطل أجوركم فلا يكون لكم [أجر] ولا مال؛ لأنه يبطل أعمالكم وأموالكم بكونها تصير صورا لا معاني لها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما صور سبحانه الدنيا بألذ صورها عند الجاهل وأمضها عند العاقل، وحاصله أنها زيادة سرور لمن كان مسرورا، واستجلاب [له] لمن كان مضرورا، لكنه سريع الانصرام بخلاف ثمرة الاجتماع على الدين من سرور العلو بالإسلام، فإنه باق على الدوام، علم أن التقدير بناء على ما تبع وصف الدنيا، والآخرة جد وعمل وحضور؛ فإن تقبلوا عليها تؤمنوا وتتقوا فلا تخدعنكم الدنيا على دناءتها عن نيل الآخرة بالجهاد الأكبر والأصغر على شرفها وشرفه، [قال بانيا على ما أرشد السياق إلى تقديره]: وإن تؤمنوا وتتقوا أي: تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وقاية من جهاد أعدائه ومقاساة لفح إيقاد الحروب وحر الأمر بالمعروف وإنفاق الأموال في ذلك، فتكونوا جادين فتتركوا اللهو واللعب القائدين إلى الكفر يؤتكم أي: الله الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة أجوركم أي: [ ص: 266 ] ثواب كل أعمالكم لبنائها على الأساس؛ ولأنه غني لا ينقصه إلا عطاء ، والآية من الاحتباك: ذكر الحياة الدنيا واللهو واللعب أولا دال على ذكر الآخرة والجد ثانيا، وذكر الإيمان والتقوى ثانيا دال على حذف ضدهما الكفران والجرأة أولا، وسره أن تصوير الشيء بحال الصبي والسفيه أشد في الزجر عنه عند ذوي الهمم العالية، وذكر الأجر المرتب على الخوف الذي هو فعل الحزمة أعون على تركه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الملعوب به الملهو منه يسأل اللاعب اللاهي من ماله، ولا يقنع عند سؤاله، فيكون سببا لضياع أعماله وأمواله، [بين] أن المعبود بخلاف ذلك في الأمرين، وأنه يعطي ولا يأخذ لنفسه شيئا وإنما أخذه أمره بمواصلة بعضكم لبعض فقال تعالى: ولا يسألكم أي [الله] في الدنيا أموالكم أي: لنفسه ولا كلها، وهذا مفهم لأنهم إن لم يتقوا بما ذكر سلط عليهم من يأخذ أموالهم بما يخرج أضغانهم، قال ابن برجان : ومتى سئلوا أموالهم بخلوا، فإن أكرهوا على ذلك أشحنوا ضغائن وحقائد، ولم يكن من الإمام لهم نصيحة ولا منهم للإمام ولا لبعضهم البعض، وكان الخلاف، [و] في ذلك [ ص: 267 ] الحالقة، وهو إنذار منه سبحانه بما يكون بعد، وما أنذر شيئا إلا كان منه ما شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية