الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 478 ] ( كتاب الرجوع عن الشهادة )

( قال : إذا رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها سقطت ) لأن الحق إنما يثبت بالقضاء والقاضي لا يقضي [ ص: 479 ] بكلام متناقض ولا ضمان عليهما لأنهما ما أتلفا شيئا لا على المدعي ولا على المشهود عليه ( فإن حكم بشهادتهم ثم رجعوا لم يفسخ الحكم ) لأن آخر كلامهم يناقض أوله فلا ينقض الحكم بالتناقض ولأنه في الدلالة على الصدق مثل الأول ، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به ( وعليهم ضمان ما أتلفوه بشهادتهم ) لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان ، والتناقض لا يمنع صحة الإقرار ، وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى ( ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم ) [ ص: 480 ] لأنه فسخ للشهادة فيختص بما تختص به الشهادة من المجلس وهو مجلس القاضي أي قاض كان ، ولأن الرجوع توبة والتوبة على حسب الجناية ، فالسر بالسر والإعلان بالإعلان .

وإذا لم يصح الرجوع في غير مجلس القاضي ، فلو ادعى المشهود عليه رجوعهما وأراد يمينهما لا يحلفان ، وكذا لا تقبل بينته عليهما لأنه ادعى رجوعا باطلا ، حتى لو أقام البينة أنه رجع عند قاضي كذا وضمنه المال تقبل لأن السبب صحيح .

التالي السابق


( كتاب الرجوع عن الشهادة )

لما كان هذا إيجاب رفع الشهادة وما تقدم إيجاب إثباتها فكانا متوازيين فترجم هذا بالكتاب كما ترجم ذاك للموازاة بينهما ، وإلا فليس لهذا أبواب لتعدد أنواع مسائله ليكون كتابا كما لذلك ولتحققه بعد الشهادة ، إذ لا رفع إلا بعد الوجود ناسب أن يجعل تعليمه بعده ، كما أن وجوده بعده وخصوص مناسبته لشهادة الزور هو أن الرجوع لا يكون غالبا إلا لتقدمها عمدا أو خطأ ( قوله إذا رجع الشهود عن الشهادة سقطت ) عن الاعتبار فلا يقضى بها لأن كلامهم تناقض حيث قالوا نشهد بكذا لا نشهد به ولا يقضى بالمتناقض ، ولأنه أي كلامه الذي ناقض له وهو المتأخر في احتماله الصدق كالأول ، فليس القضاء بأحدهما بعينه أولى به من الآخر فوقف كل منهما .

قالوا : ويعزر الشهود سواء رجعوا قبل القضاء أو بعده ، ولا يخلو عن نظر لأن الرجوع ظاهر في أنه توبة عن الزور إن تعمده ، أو التهور والعجلة إن كان أخطأ فيه ، ولا تعزير على التوبة ولا على ذنب ارتفع بها وليس فيه [ ص: 479 ] حد مقدر ( قوله ولا ضمان عليهم ) لأنهم لم يتلفوا شيئا على المشهود له أو عليه ( قوله فإن حكم إلخ ) إذا رجعوا قبل الحكم فلا ضمان عليهم ، وإن رجعوا بعده لم يفسخ الحكم لما تقدم من أن الثاني ليس أولى من كلامهم الأول ، ولا الأول أولى من الثاني فتعارضا ، ولا ترجيح قبل الحكم لأحد الكلامين فلا يحكم بأحدهما ، وبعده ترجح الأول لاتصال القضاء به لأنه مؤكد لحكمه وقع في حال لا معارض له فيه فلا ينقض الأقوى بالأدنى ، لكن عليهم ضمان ما أتلفوه بشهادتهم ، وإنما كانوا متلفين بسبب لزوم حكم شهادتهم : أعني اتصال القضاء الذي لا يجوز نقضه وبالرجوع مع العلم بأنه لا ينقض القضاء به كانوا معترفين بأن تسببهم في ذلك الإتلاف كان تعديا لأنه وقع على خلاف الحق ، والتسبب في الإتلاف تعديا سبب للضمان .

وكان أبو حنيفة رحمه الله أولا يقول : ينظر إلى حال الشهود ، إن كان حالهم عند الرجوع أفضل من حالهم وقت الأداء في العدالة صح رجوعهم في حق نفسهم ، وفي حق غيرهم فيعزرون وينقض القضاء ويرد المال على المشهود عليه ، وإن كانوا عند الرجوع كحالهم عند الأداء أو دونه يعزرون ، ولا ينقض القضاء ، ولا يجب الضمان على الشاهد .

وهذا قول أستاذه حماد بن سليمان . ثم رجع إلى أنه لا يصح رجوعه في حق غيره على كل حال ، فلا ينقض القضاء ولا يرد المال على المقضي عليه لما قلنا وهو قولهما ( قوله ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم ) سواء كان هو القاضي المشهود عنده أو غيره ، وزاد جماعة [ ص: 480 ] في صحة الرجوع أن يحكم القاضي برجوعهما ويضمنهما المال ، وإليه أشار المصنف حيث قال ( وإذا لم يصح في غير مجلس القاضي ، فلو ادعى المشهود عليه رجوعهما وأراد يمينهما ) أنهما لم يرجعا ( لا يحلفان وكذا ) لو أقام بينة على هذا الرجوع ( لا تقبل لأنه ادعى رجوعا باطلا ) وإقامة البينة وإلزام اليمين لا تقبل إلا على دعوى صحيحة .

ثم قال ( حتى لو أقام البينة أنه رجع عند قاضي كذا وضمنه المال تقبل ) فهذا ظاهر في تقييد صحة الرجوع بذلك ، ونقل هذا عن شيخ الإسلام . واستبعد بعضهم من المحققين توقف صحة الرجوع على القضاء بالرجوع وبالضمان ، وترك بعض المتأخرين من مصنفي الفتاوى هذا القيد ، وذكر أنه إما تركه تعويلا على هذا الاستبعاد ، ويتفرع على اشتراط المجلس أنه لو أقر شاهد بالرجوع في غير المجلس وأشهد على نفسه به وبالتزام المال لا يلزمه شيء ، [ ص: 481 ] ولو ادعى عليه بذلك لا يلزمه إذا تصادقا أن لزوم المال عليه كان بهذا الرجوع ، ولو أقر في مجلس قاض أنه رجع عند قاضي كذا صح باعتبار كون هذا رجوعا عند هذا القاضي لا الذي أسند رجوعه إليه ، ولو رجعا عند القاضي ثم جحد تقبل البينة عليهما ويقضي بالضمان عليهما .

ثم ذكر المصنف لاشتراط مجلس الحكم في صحة الرجوع وجهين : أولهما أن الرجوع فسخ للشهادة ، فكما اشترط للشهادة المجلس كذلك لفسخها ، وعلى الملازمة منع ظاهر مع إبداء الفرق بأن اشتراط المجلس ليتصور الأداء عنده بالضرورة ، بخلاف الرجوع لأن حاصله الإقرار على نفسه يتحقق سبب الضمان منه ، والإقرار بالضمان لا يتوقف على مجلس القضاء .

وأجاب في النهاية بأن ما شرط للابتداء شرط للبقاء كالبيع فإنه شرط فيه وجود المبيع فكذا في فسخه ، أو هذا أيضا مما يحتاج إلى إثبات الملازمة مع أن الاتفاق أن شرط ذلك في فسخ البيع إنما هو ليثبت حكم الفسخ وهو التراد ، والتراد يتوقف على قيامه ، بخلاف حكم الرجوع فإنه الضمان ، ويمكن إثباته مع ثبوته دون المجلس . ثم هو قد أورد على ما ذكره من أن شرط الابتداء شرط البقاء في السلم حيث يشترط لابتدائه حضور رأس المال دون فسخه . وأجاب بمثل ما ذكرنا من أن ذلك لأمر يخص الابتداء لا يوجد في البقاء وهو كي لا يلزم الافتراق عن الكالئ بالكالئ وذلك غير لازم في فسخه فلذا لم يشترط في فسخه ما شرط في ابتدائه ، وهذا نحو ما ذكرنا من أن شرط المجلس ابتداء ليتصور الأداء بخلاف الفسخ . ثم تمهيد الجواب بأن ما شرط للابتداء شرط للبقاء لا يناسب ما نحن فيه وهو الرفع . نعم الرفع يرد على حالة بقاء أثر الشهادة وهو الحكم بها ، ولو تسهلنا إلى جعل ذلك بقاء نفس الشهادة لا يتصور كون مجلس الحكم شرطا لبقاء الشهادة ، ولو أرخيا العنان في الآخر فإنما يكون المشروط للبقاء المجلس الأول الذي كان شرطا للأداء ، والمجلس المشروط هنا مجلس آخر .

وذكر بعضهم في وجهه أن الرجوع فسخ ونقض للشهادة فكان مقابلا لها فاختص بموضع الشهادة ، ومنع الملازمة فيه ظاهر فبينه بأن السواد والبياض لما كانا متضادين اشترط للتضاد اتحاد المحل . ولا يخفى أن اتحاد المحل إنما هو شرط امتناع اجتماع المتضادين لا شرط لكل من المتضادين في نفسه ، كما أن مجلس شرط لكل من الشهادة ونقضها . والوجه الثاني أن الرجوع توبة عن ذنب الكذب وكان ذلك الذنب في مجلس القضاء فتختص التوبة عنه بمجلسه ، ولا شك أن ذلك أيضا غير لازم فيه فبينوا له ملازمة شرعية بحديث { معاذ رضي الله تعالى عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن فقال أوصني ، فقال : عليك بتقوى الله تعالى ما استطعت ، إلى أن قال : وإذا عملت شرا فأحدث توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية } وأنت تعلم أن العلانية لا تتوقف على الإعلان في محل الذنب بخصوصه مع أن ذلك لا يمكن بل في مثله مما فيه علانية وهو إذا أظهر الرجوع للناس وأشهدهم عليه وبلغ ذلك القاضي بالبينة عليه كي لا يكون معلنا




الخدمات العلمية