الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب

                                                                                                          247 حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر المكي أبو عبد الله العدني وعلي بن حجر قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب قال وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأبي قتادة وعبد الله بن عمرو قال أبو عيسى حديث عبادة حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وغيرهم قالوا لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وقال علي بن أبي طالب كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق سمعت ابن أبي عمر يقول اختلفت إلى ابن عيينة ثمانية عشر سنة وكان الحميدي أكبر مني بسنة وسمعت ابن أبي عمر يقول حججت سبعين حجة ماشيا على قدمي [ ص: 53 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 53 ] قوله : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) هذا دليل على أن قراءة فاتحة الكتاب فرض في جميع الصلوات ، فريضة كانت أو نافلة ، وركن من أركانها . قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة تحت قوله : الأمور التي لا بد منها في الصلاة وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الركنية كقوله صلى الله عليه وسلم : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقوله صلى الله عليه وسلم : لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ، وما سمى الشارع الصلاة به فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة ، انتهى كلامه . والحديث بعمومه شامل لكل مصل منفردا كان أو إماما أو مأموما .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأبي قتادة وعبد الله بن عمرو ) أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم مرفوعا بلفظ : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام الحديث . وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي والبيهقي في كتاب القراءة [ ص: 54 ] والبخاري في جزء القراءة بلفظ : قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج . وأما حديث أنس وأبي قتادة فلم أقف عليهما ، وأما حديثهما في القراءة خلف الإمام فسيجيء تخريجهما في باب القراءة خلف الإمام . وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البيهقي في كتاب القراءة والبخاري في جزء القراءة مرفوعا بلفظ : كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي مخدجة مخدجة مخدجة . وفي رواية فهي خداج .

                                                                                                          قوله : ( حديث عبادة حديث حسن صحيح ) أخرجه الجماعة .

                                                                                                          قوله : ( والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وغيرهم ) كعبادة بن الصامت ، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ( قالوا : لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب ، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ) فعند هؤلاء قراءة الفاتحة في الصلاة فرض من فروضها وركن من أركانها ، واستدلوا عليه بأحاديث الباب ، فإن حديث عبادة بلفظ : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، تنبيه بليغ على ركنية الفاتحة كما تقدم ورواه الدارقطني ، وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم بإسناد صحيح بلفظ : لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب كما ذكره الحافظ في الفتح . فهذه الرواية نص صريح في ركنية الفاتحة لا يحتمل تأويلا وحديث أبي هريرة وغيره بلفظ : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ، أيضا يدل على ركنية الفاتحة في الصلاة . فإن معنى قوله خداج أي ناقصة نقص فساد وبطلان . قال الزمخشري في أساس البلاغة : ومن المجاز خدج الرجل فهو خادج إذا نقص عضو منه ، وأخدجه الله فهو مخدج وكان ذو الثدية مخدج اليد ، وأخدج صلاته نقص بعض أركانها ، وصلاتي مخدجة وخادجة وخداج وصف بالمصدر ، انتهى .

                                                                                                          وقال الخطابي في معالم السنن : فهي خداج أي ناقصة نقص بطلان وفساد ، تقول العرب : أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها ، وهو دم لم يستبن خلقه فهي مخدج ، والخداج اسم مبني منه . وقال البخاري في جزء القراءة : قال أبو عبيد : أخدجت الناقة إذا أسقطت ، والسقط ميت لا ينتفع به ، انتهى .

                                                                                                          [ ص: 55 ] وقال الجزري في النهاية : الخداج النقصان يقال خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق ، وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق ، وإن كان لتمام الحمل ، انتهى . وقال في المصباح المنير : قال أبو زيد خدجت الناقة وكل ذات خف وظلف وحافر إذا ألقت ولدها لغير تمام الحمل . وزاد ابن القوطية : وإن تم خلقه وأخدجته بالألف ألقته ناقص الخلق ، انتهى . قلت : والمراد من إلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل وإن تم خلقه إسقاطها والسقط ميت لا ينتفع به كما عرفت ، فظهر من هذا كله أن قوله فهي خداج معناه ناقصة نقص فساد وبطلان ، ويدل عليه ما رواه البيهقي في كتاب القراءة بإسناده عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب . قلت : فإن كنت خلف الإمام قال فأخذ بيدي ، وقال اقرأ في نفسك يا فارسي ، قال البيهقي رواه ابن خزيمة الإمام عن محمد بن يحيى محتجا به على أن قوله في سائر الروايات فهي خداج المراد به النقصان الذي لا تجزئ معه ، انتهى .

                                                                                                          فالحاصل أن استدلال أكثر أهل العلم وجمهورهم بأحاديث الباب على ركنية الفاتحة في الصلاة صحيح لا غبار عليه ، وقولهم هو الراجح المنصور ، وقال الحنفية : بأن قراءة الفاتحة في الصلاة ليست بفرض ، وأجابوا عن حديث عبادة بأن النفي في قوله : لا صلاة للكمال . ورد هذا الجواب بوجهين الأول أن رواية ابن خزيمة وغيره بلفظ : لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب تبطل تأويلهم هذا إبطالا صريحا ، وهذه الرواية صحيحة صرح بصحتها أئمة الفن ، قال الحافظ في التلخيص : ورواه يعني حديث عبادة الدارقطني بلفظ : لا تجزئ صلاة إلا أن يقرأ الرجل فيها بأم القرآن ، وصححه ابن القطان ، انتهى . وقال القاري في المرقاة نقلا عن ابن حجر المكي . ومنها خبر ابن خزيمة ، وابن حبان والحاكم في صحاحهم بإسناد صحيح : لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ورواه الدارقطني بإسناد حسن ، وقال النووي : رواته كلهم ثقات ، انتهى ، والثاني أن النفي في قوله : لا صلاة إما أن يراد به نفي الحقيقة أو نفي الصحة أو نفي الكمال فالأول حقيقة ، والثاني والثالث مجاز ، والثاني أعني نفي الصحة أقرب المجازين إلى الحقيقة ، والثالث أعني نفي الكمال أبعدهما ، فحمل النفي على الحقيقة واجب إن أمكن ، وإلا فحمله على أقرب المجازين واجب ومتعين ، ومع إمكان الحقيقة أو أقرب المجازين لا يجوز حمله على أبعد المجازين . قال الشوكاني في النيل والحديث يعني حديث عبادة يدل على تعين الفاتحة في الصلاة ، وأنه لا يجزئ غيرها وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاؤها ، وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا [ ص: 56 ] إلى الكمال ; لأن الصحة أقرب المجازين ، والكمال أبعدهما ، والحمل على أقرب المجازين واجب . وتوجه النفي هاهنا إلى الذات ممكن ، كما قال الحافظ في الفتح لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي ، لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات ، لا لتعريف الموضوعات اللغوية ، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات ، لأن المركب كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها ، فلا يحتاج إلى إضمار الصحة ولا الإجزاء ولا الكمال ، كما روي عن جماعة ، لأنه إنما يحتاج إليه عند الضرورة وهي عدم إمكان انتفاء الذات . ولو سلم أن المراد هاهنا الصلاة اللغوية ، فلا يمكن توجه النفي إلى الذات لأنها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض ، لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال ما أولا ، فلما ذكرنا من أن ذلك أقرب المجازين ، وأما ثانيا فلرواية الدارقطني المذكورة في الحديث فإنها مصرحة بالإجزاء فتعين تقديره ، انتهى كلام الشوكاني ، وقال الحافظ في الفتح : إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة ، فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما ، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم ، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس فيكون أولى ، ويؤيده رواية الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد النرسي أحد شيوخ البخاري ، عن سفيان بهذا الإسناد ، بلفظ : لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ، وتابعه على ذلك زياد ابن أبي أحد الأثبات ، أخرجه الدارقطني ، وله شاهد من طريق العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ أخرجه ابن خزيمة ، وابن حبان ، وغيرهما ، ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيري ، عن رجل ، عن أبيه مرفوعا : لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن ، انتهى كلام الحافظ ، وأجاب الحنفية عن حديث أبي هريرة المذكور : بأن لفظ الخداج يدل على النقصان لا على البطلان ، لأنه وقع مثل هذا في ترك الدعاء بعد الصلاة في حديث فضل بن عباس ، ورد بأنه يدل على أن من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فصلاته ناقصة نقص بطلان وفساد ، وقد عرفت بيانه ولم يقع لفظ الخداج في حديث فضل بن عباس على ترك الدعاء بعد الصلاة فقط بل على ترك مجموع ما ذكر في هذا الحديث ولفظه هكذا : الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ، ثم تقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلا .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أن مذهب الحنفية ، أن قراءة الفاتحة ليست بفرض بل هي واجبة ، قالوا : الفرض عندنا مطلق القراءة لقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن . وتقييده بالحديث زيادة على الكتاب ، وذا لا يجوز عملنا بالكتاب والحديث . فقلنا : إن مطلق القرآن فرض وقراءة الفاتحة واجب .

                                                                                                          [ ص: 57 ] قلت : إثبات فرضية مطلق القرآن بهذه الآية مبني على أن المراد من قوله تعالى : فاقرءوا قراءة القرآن بعينها ، وهو ليس بمتفق عليه ، بل فيه قولان ، قال الرازي في تفسيره فيه قولان : الأول أن المراد من هذه القراءة الصلاة ، أي فصلوا ما تيسر عليكم . القول الثاني : أن المراد من قوله : فاقرءوا ما تيسر من القرآن قراءة القرآن بعينها ، انتهى . وهكذا في عامة كتب التفسير ، والقول الثاني فيه بعد عن مقتضى السياق ، قال الشيخ الألوسي البغدادي في تفسيره المسمى بروح المعاني : أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل . عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها . وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها . وفيه بعد عن مقتضى السياق ، انتهى كلامه . فلما ظهر أن في قوله تعالى فاقرءوا القولين المذكورين وأن القول الثاني فيه بعد لاح لك أن الاستدلال به على فرضية مطلق القراءة غير صحيح ، ولو سلمنا أن المراد هو القول الثاني : أعني قراءة القرآن بعينها ، فحديث الباب مشهور بل متواتر ، قال الإمام البخاري في جزء القراءة : تواتر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن ، انتهى والزيادة بالحديث المشهور جائز عند الحنفية ، على أن قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن عام مخصوص منه البعض فهو ظني فلا يدل على فرضية مطلق القراءة ويجوز تخصيصه ولو بالأحاديث ، قال الملاجيون في تفسيره ثم أقل القراءة فرضا عندنا آية واحدة طويلة كآية الكرسي وغيرها ، أو ثلاث آيات قصيرة كمدهامتان ، وهذا هو الأصح ، وقيل إنها واحدة طويلة كانت أو قصيرة ، وذلك مما لا يعتد به ينادي عليه كتب الفقه ، وعلى كل تقدير يكون ما دون الآية مخصوصا من هذا العام ، فيكون العام ظنيا فينبغي أن لا يدل على فرضية القراءة وأن يعارضه الحديث حجة للشافعي ، انتهى كلامه . وأما ما قيل من أن ما دون الآية لا يسمى قراءة القرآن عرفا ، والعرف قاض على الحقيقة اللغوية ، فهذا دعوى لا دليل عليها ، ويلزم منها أن يكون مدهامتان التي هي كلمة واحدة قراءة القرآن ولا يكون أكثر آية المداينة التي هي كلمات كثيرة قراءة القرآن وهذا كما ترى ، وأيضا يلزم منه أنه لو قرأ أحد نصف آية المداينة في الصلاة لا تجوز . وعامة الحنفية على جوازها . قال في فتح القدير : ولو قرأ نصف آية المداينة قيل لا يجوز لعدم تمام الآية ، وعامتهم على الجواز ، انتهى .

                                                                                                          فإن قلت : قوله صلى الله عليه وسلم حين تعليم المسيء صلاته : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن رواه البخاري يدل على عدم فرضية الفاتحة إذ لو كانت فرضا لأمره ، لأن المقام مقام التعليم فلا يجوز تأخير البيان عنه .

                                                                                                          قلت : قد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة الفاتحة ، فأخرج أبو داود في سننه من حديث رفاعة ابن رافع مرفوعا وإذا قمت فتوجهت فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ، وبما شاء الله أن تقرأ وأجاب الخطابي عن [ ص: 58 ] هذا بأن قوله ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ظاهر الإطلاق التخيير لكن المراد به فاتحة الكتاب ، بدليل حديث عبادة وهو كقوله تعالى فما استيسر من الهدي ثم عينت السنة المراد . والحاصل أن قراءة الفاتحة في الصلوات فرض من فروضها ولم يقم دليل صحيح على ما ذهب إليه الحنفية . هذا ما عندي والله تعالى أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية