الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 230 ] ( وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما أفتى بأن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السعادات ، أتبعه بالدلالة الظاهرة على صحة هذه الفتوى ، فقال : ( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ) ولو لم يوجد البحث لما كان ذلك بالحق ، بل كان بالباطل ، لأنه تعالى لما خلق الظالم ، وسلطه على المظلوم الضعيف ، ثم لا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالما ، ولو كان ظالما لبطل أنه ( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ) ، وتمام تقرير هذه الدلائل مذكور في أول سورة يونس ، قال القاضي : هذه الآية تدل على أن في مقدور الله ما لو حصل لكان ظلما ، وذلك لا يصح إلا على مذهب المجبرة الذين يقولون : لو فعل كل شيء أراده لم يكن ظلما ، وعلى قول من يقول : إنه لا يوصف بالقدرة على الظلم ، وأجاب الأصحاب عنه بأن المراد فعل ما لو فعله غيره لكان ظلما كما أن المراد من الابتلاء والاختبار فعل ما لو فعله غيره لكان ابتلاء واختبارا .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( ولتجزى ) ، فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه معطوف على قوله : ( بالحق ) فيكون التقدير : وخلق الله السماوات والأرض لأجل إظهار الحق ، ولتجزى كل نفس .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون العطف على محذوف ، والتقدير : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ليدل بهما على قدرته ، ( ولتجزى كل نفس ) والمعنى أن المقصود من خلق هذا العلم إظهار العدل والرحمة ، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم عاد تعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طرائقهم ، فقال : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) يعني : تركوا متابعة الهدى وأقبلوا على متابعة الهوى ، فكانوا يعبدون الهوى كما يعبد الرجل إلهه ، وقرئ ( آلهته هواه ) كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه ، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحدا منها .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 231 ] ثم قال تعالى : ( وأضله الله على علم ) يعني على علم بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح ، ونظيره في جانب التعظيم قوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] ، وتحقيق الكلام فيه أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة فمنها مشرقة نورانية علوية إلهية ، ومنها كدرة ظلمانية سفلية عظيمة الميل إلى الشهوات الجسمانية ، فهو تعالى يقابل كلا منهم بحسب ما يليق بجوهره وماهيته ، وهو المراد من قوله : ( وأضله الله على علم ) في حق المردودين ، وبقوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) في حق المقبولين .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) فقوله : ( وأضله الله على علم ) هو المذكور في قوله : ( إن الذين كفروا ) إلى قوله : ( لا يؤمنون ) ، وقوله : ( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) هو المراد من قوله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) ، وكل ذلك قد مر تفسيره في سورة البقرة بالاستقصاء ، والتفاوت بين الآيتين أنه في هذه الآية قدم ذكر السمع على القلب ، وفي سورة البقرة قدم القلب على السمع ، والفرق أن الإنسان قد يسمع كلاما فيقع في قلبه منه أثر ، مثل أن جماعة من الكفار كانوا يلقون إلى الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة ، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه ، وأما كفار مكة فهم كانوا يبغضونه بقلوبهم بسبب الحسد الشديد فكانوا يستمعون إليه ، ولو سمعوا كلامه ما فهموا منه شيئا نافعا ، ففي الصورة الأولى كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس ، وفي الصورة الثانية كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن ، فلما اختلف القسمان لا جرم أرشد الله تعالى إلى كلا هذين القسمين بهذين الترتيبين اللذين نبهنا عليهما ، ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام قال : ( فمن يهديه من بعد الله ) أي من بعد أن أضله الله ، ( أفلا تذكرون ) أيها الناس ، قال الواحدي : وليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة ، لأن الله تعالى صرح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره ، وأقول : هذه المناظرة قد سبقت بالاستقصاء في أول سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى حكى عنهم بعد ذلك شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر ، أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قوله تعالى : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ) ، فإن قالوا : الحياة مقدمة على الموت في الدنيا فمنكرو القيامة كان يجب أن يقولوا : نحيا ونموت ، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة ؟ قلنا : فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد بقوله : ( نموت ) حال كونهم نطفا في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وبقوله : ( نحيا ) ما حصل بعد ذلك في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : يموت بعض ويحيا بعض .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : وهو الذي خطر بالبال عند كتابة هذا الموضع أنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ) ، ثم قال بعده : ( نموت ونحيا ) يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ، ومنها ما لم يطرأ الموت عليها وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد ، وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار فهو قولهم : ( وما يهلكنا إلا الدهر ) يعني : تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع ، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة ، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت ، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار ، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 232 ] ثم قال تعالى : ( وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) ، والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة ، فالذي قالوه يحتمل وضده أيضا يحتمل ، وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقا ، وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقا ، فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ، ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموا به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة ، فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبينة قول باطل فاسد ، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ) ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرئ حجتهم ، والرفع على تقديم خبر كان وتأخيره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : سمى قولهم حجة لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه في زعمهم حجة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون المراد من كان حجتهم هذا ، فليس البتة حجة كقوله : تحية بينهم ضرب وجيع [ أي ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : أن حجتهم على إنكار البعث أن قالوا : لو صح ذلك فائتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الشبهة ضعيفة جدا ، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول ، فإن حصول كل واحد منا كان معدوما من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه ، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك ، وذلك باطل بالاتفاق .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة ) ، فإن قيل : هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول : ( ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) فهذا القائل كان منكرا لوجود الإله ولوجود يوم القيامة ، فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله : ( قل الله يحييكم ثم يميتكم ) ؟ وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مرارا وأطوارا ، فقوله ههنا : ( قل الله يحييكم ) إشارة إلى تلك الدلائل التي بينها وأوضحها مرارا ، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله بقول الإله ، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى ، وثبت أن الإعادة مثل الإحياء الأول ، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ، ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة ، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها ، وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة ، وهو أن كونه تعالى عادلا خالقا بالحق منزها عن الجور والظلم يقتضي صحة البعث والقيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 233 ] ثم قال تعالى : ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم ، ولا يعلمون أيضا أنه تعالى لما كان قادرا على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادرا على الإعادة ثانيا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية