الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه . ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سفرة واحدة وأحرم في أشهر الحج ، كما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلموا أن من أفرد الحج واعتمر عقبه من الحل - وإن قالوا : إنه جائز - فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عائشة ، على قول من يقول : إنها رفضت العمرة وأحرمت بالحج ، كما يقول الكوفيون . وأما على قول أكثر الفقهاء : أنها صارت قارنة : فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك .

              وكذلك علموا أن من لم يسق الهدي وقرن بين النسكين لا يفعله . وإن قال أكثرهم - كأحمد وغيره - إنه جائز . فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عائشة ، على قول من قال : إنها كانت قارنة .

              ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء وعلماء ، كأحمد وغيره : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه لم يكن مفردا للحج ، ولا كان متمتعا تمتعا حل به من إحرامه . ومن قال من أصحاب أحمد : إنه تمتع وحل من إحرامه فقد غلط . وكذلك من قال : إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط .

              وأما من توهم من بعض الفقهاء أنه اعتمر بعد حجته ، كما يفعله المختارون للإفراد إذا جمعوا بين النسكين : فهذا لم يروه أحد ، ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته - صلى الله عليه وسلم - . فإنه لا خلاف بينهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة . ولهذا لا [ ص: 145 ] يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمسجد عائشة ، حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هي ، ولا كان - صلى الله عليه وسلم - أيضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين . فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة .

              فمن قال من أصحاب أبي حنيفة ، أو مالك ، أو الشافعي ، أو أحمد شيئا من هذه المقالات فقد غلط .

              وسبب غلطه : ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد - منهم : عائشة ، وابن عمر وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج ، وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج ثبت عنهم أنهم قالوا : إنه تمتع بالعمرة إلى الحج .

              وثبت عن أنس بن مالك أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لبيك عمرة وحجا وعن عمر : أنه أخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أتاني آت من ربي - يعني بوادي العقيق - وقال : قل : عمرة في حجة ، ولم يحك أحد لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أحرم به إلا عمر وأنس .

              فلهذا قال الإمام أحمد : لا أشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، وأما [ ص: 146 ] ألفاظ الصحابة : فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه ، سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه ، فهذا التمتع العام يدخل فيه القران ، ولذلك وجب عليه الهدي عند عامة الفقهاء إدخالا له في عموم قوله تعالى : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) [ البقرة : 196] وإن كان اسم "التمتع" قد يختص بمن اعتمر ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته . فمن قال منهم : " تمتع بالعمرة إلى الحج " لم يرد أنه حل من إحرامه ، ولكن أراد : أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج ، لكن لم يبين : هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين ، أو أحرم بالحج بعد ذلك ؟ فإن كان قد أحرم قبل الطوافين ، فهو قارن بلا تردد . وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت وبالجبلين ، وهو لم يكن حل من إحرامه : فهذا يسمى متمتعا ؛ لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج ، ويسمى قارنا ؛ لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة . ولهذا يسميه بعض أصحابنا "متمتعا" ، ويسميه بعضهم "قارنا" ، ويسميه بعضهم بالاسمين ، وهو الأصوب . وهذا في التمتع الخاص ، فأما التمتع العام : فيشمله بلا تردد .

              ومع هذا : فالصواب ما قطع به أحمد من أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج قبل الطواف لقوله : لبيك عمرة وحجا ، ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) [البقرة : 196] ؛ لأن العمرة دخلت في الحج ، كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية