الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة الثانية عشرة

              ما أصله الإباحة للحاجة أو الضرورة إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا ، هل يكر على أصل الإباحة بالنقض أولا ; هذا محل نظر وإشكال ، والقول فيه أنه لا يخلو إما أن يضطر إلى ذلك المباح أم لا ، وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا .

              فهذه أقسام ثلاثة : أحدها : أن يضطر إلى فعل ذلك المباح ; فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل ، وعدم اعتبار ذلك العارض لأوجه : ـ

              منها : أن ذلك المباح قد صار واجب الفعل ، ولم يبق على أصله من الإباحة ، وإذا صار واجبا لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه ، وليس فرض المسألة هكذا ; فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى ; فلا بد من الرجوع إليه ، وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ .

              [ ص: 288 ] والثاني : أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع ، أعني أن إقامة الضرورة معتبرة ، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة ، كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك ، في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة ، وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه ، فما نحن فيه من ذلك النوع فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية .

              والثالث : أنا لو اعتبرنا العوارض ، ولم نغتفرها لأدى ذلك إلى رفع الإباحة رأسا ، وذلك غير صحيح ـ كما سيأتي في كتاب المقاصد : من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره ـ واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب ; فإن البيع والشراء حلال في الأصل ، فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه ، ففقد الموانع من المكملات كاستجماع الشرائط ، وإذا اعتبرت أدى إلى ارتفاع ما اضطر إليه ، وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل ; فما نحن فيه مثله .

              القسم الثاني : أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه بالترك حرج ، فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ ; إذ الممنوعات قد أبيحت رفعا للحرج ـ كما سيأتي لابن العربي في دخول الحمام ـ وكما إذا كثرت المناكر في الطرق والأسواق ، فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات إذا كان الامتناع من التصرف حرجا بينا ، وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .

              [ ص: 289 ] وقد أبيح الممنوع رفعا للحرج كالقرض الذي فيه بيع للفضة بالفضة ليس يدا بيد ، وإباحة العرايا ، وجميع ما ذكره الناس في عوارض النكاح ، وعوارض مخالطة الناس ، وما أشبه ذلك وهو كثير .

              هذا وإن ظهر ببادئ الرأي الخلاف هاهنا ; فإن قوما شددوا فيه على أنفسهم ، وهم أهل علم يقتدى بهم ، ومنهم من صرح في الفتيا بمقتضى الانكفاف واعتبار العوارض ، فهؤلاء إنما بتوا في المسألة على أحد وجهين :

              إما أنهم شهدوا بعدم الحرج لضعفه عندهم ، وأنه مما هو معتاد في التكاليف ، والحرج المعتاد مثله في التكاليف غير مرفوع ، وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها ، وقد تبين ذلك في القسم الثاني من قسمي الأحكام .

              وإما أنهم عملوا وأفتوا باعتبار الاصطلاح الواقع في الرخص ، فرأوا أن كون المباح رخصة يقضي برجحان الترك مع الإمكان ، وإن لم يطرق في طريقه عارض ، فما ظنك به إذا طرق العارض ، والكلام في هذا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص .

              [ ص: 290 ] وربما اعترضت في طريق المباح عوارض يقضي مجموعها برجحان اعتبارها ، ولأن ما يلحق فيها من المفاسد أعظم مما يلحق في ترك ذلك المباح ، وإن الحرج فيها أعظم منه في تركه ، وهذا أيضا مجال اجتهاد إلا أنه يقال : هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا ؟ ، وهي مسألة نرسمها الآن بحول الله تعالى ، وهي :

              التالي السابق


              الخدمات العلمية