الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2401 238 \ 2294 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا مرض الرجل في [ ص: 90 ] رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله:وفي الصحيحين عن ابن عباس قال " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها ؟ فقال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قالت: نعم.

                                                              قال: فصومي عن أمك "
                                                              هذا لفظ مسلم.

                                                              ولفظ البخاري نحوه

                                                              وفي الصحيحين عنه أيضا " أن أمرأة جاءت فقالت: يا رسول الله، إن أختي ماتت وعليها صيام شهرين متتابعين " وذكر الحديث بنحوه

                                                              وفي صحيح مسلم عن بريدة قال " كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت قال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث.

                                                              قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر.

                                                              أفأصوم عنها ؟ قال: صومي عنها.

                                                              قالت: يا رسول الله، إنها لم تحج، [ ص: 91 ] أفأحج عنها ؟ قال: حجي عنها "


                                                              قال البيهقي: فثبت بهذه الأحاديث جواز الصوم عن الميت.

                                                              وقال الشافعي في القديم: قد ورد في الصوم عن الميت شيء، فإن كان ثابتا صيم عنه، كما يحج عنه.

                                                              وقال في الجديد: فإن قيل: فهل روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا أن يصوم عن أحد ؟ قيل: نعم، روي عن ابن عباس.

                                                              فإن قيل: لم لا تأخذ به ؟ قيل: حدث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " نذر نذرا " ولم يسمه، مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس، فلما جاء غيره: عن رجل عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد الله أشبه ألا يكون محفوظا.

                                                              وأراد الشافعي ما روى مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله " [عن ابن عباس] أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقضه عنها " وهذا حديث متفق عليه من حديث مالك وغيره عن الزهري، إلا أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس " أن امرأة سألت " وكذلك رواه الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عباس، وفي رواية عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير [ ص: 92 ] عن ابن عباس " أن امرأة سألت " ورواه عكرمة عن ابن عباس.

                                                              ثم رواه بريدة بن حصيب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                              فالأشبه أن تكون هذه القصة التي وقع فيها السؤال [عن الصوم] نصا غير قصة سعد بن عبادة التي وقع السؤال فيها عن النذر مطلقا، كيف وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح النص على جواز الصوم عن الميت،

                                                              قال: وقد رأيت بعض أصحابنا يضعف حديث ابن عباس.

                                                              بما روي عن يزيد بن زريع عن حجاج الأحول عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: " لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه "، وبما روي عنه في الإطعام عمن مات وعليه صيام شهر رمضان وصيام شهر النذر.

                                                              وضعف حديث عائشة بما روي عنها في امرأة ماتت وعليها الصوم.

                                                              قالت " يطعم عنها " وفي رواية عنها " لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا [ ص: 93 ] عنهم "

                                                              قال: وليس فيما ذكروا ما يوجب للحديث ضعفا، فمن يجوز الصيام عن الميت يجوز الإطعام عنه.

                                                              وفيما روي عنها في النهي عن الصوم عن الميت نظر، والأحاديث المرفوعة أصح إسنادا، وأشهر رجالا، وقد أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما، ولو وقف الشافعي على جميع طرقها وتظاهرها، لم يخالفها إن شاء الله.

                                                              وممن رأى جواز الصيام عن الميت: طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة.

                                                              آخر كلام البيهقي.

                                                              اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه ؟ على ثلاثة أقوال:

                                                              أحدها: لا يقضى عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب الأصلي.

                                                              وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه.

                                                              الثاني: أنه يصام عنه فيهما، وهذا قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي.

                                                              الثالث: أنه يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي.

                                                              وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه، وقول أبي عبيد والليث بن سعد، وهو المنصوص عن [ ص: 94 ] ابن عباس.

                                                              روى الأثرم عنه أنه " سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر، وعليه صوم رمضان ؟ قال: أما رمضان فليطعم عنه، وأما النذر فيصام "

                                                              وهذا أعدل الأقوال.

                                                              وعليه يدل كلام الصحابة، وبهذا يزول الإشكال.

                                                              وتعليل حديث ابن عباس أنه قال: " لا يصوم أحد عن أحد، ويطعم عنه "، فإن هذا إنما هو في الفرض الأصلي، وأما النذر فيصام عنه، كما صرح به ابن عباس، ولا معارضة بين فتواه وروايته.

                                                              وهذا هو المروي عنه في قصة من مات وعليه صوم رمضان وصوم النذر، فرق بينهما، فأفتى بالإطعام في رمضان، وبالصوم عنه في النذر، فأي شيء في هذا مما يوجب تعليل حديثه ؟

                                                              وكذلك ما روي عن عائشة من إفتائها في التي ماتت وعليها الصوم: أنه يطعم عنها، إنما هو في الفرض، لا في النذر؛ لأن الثابت عن عائشة فيمن مات وعليه صيام رمضان " أنه يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام "، فالمنقول عنها كالمنقول عن ابن عباس سواء، فلا تعارض بين رأيها وروايتها.

                                                              وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وموافقة فتاوي الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس؛ لأن النذر ليس واجبا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدين الذي استدانه، ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدين في حديث ابن عباس.

                                                              والمسئول عنه فيه: أنه كان صوم نذر، والدين تدخله النيابة.

                                                              وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء فهو أحد أركان الإسلام.

                                                              فلا [ ص: 95 ] تدخله النيابة بحال، كما لا تدخل الصلاة والشهادتين.

                                                              فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبودية التي خلق لها، وأمر بها، وهذا أمر لا يؤديه عنه غيره، كما لا يسلم عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره.

                                                              وهكذا من ترك الحج عمدا مع القدرة عليه حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات.

                                                              فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع: أن فعلهما عنه بعد الموت لا يبرئ ذمته.

                                                              ولا يقبل منه.

                                                              والحق أحق أن يتبع.

                                                              وسر الفرق: أن النذر التزام المكلف لما شغل به ذمته، لا أن الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكما مما جعله الشارع حقا له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يشغلها المكلف بما لا قدرة له عليه، بخلاف واجبات الشرع.

                                                              فإنها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز.

                                                              فواجب الذمة أوسع من واجب الشرع الأصلي؛ لأن المكلف متمكن من إيجاب واجبات كثيرة عليه لم يوجبها عليه الشارع، والذمة واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشرع.

                                                              فلا يلزم من دخول النيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشرع.

                                                              وهذا يبين أن الصحابة أفقه الخلق، وأعمقهم علما، وأعرفهم بأسرار الشرع ومقاصده وحكمه.

                                                              وبالله التوفيق.




                                                              الخدمات العلمية