الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 - 15 ] قال ( والعقد الذي يعقده الوكلاء على ضربين ) : كل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل . وقال الشافعي رحمه الله : تتعلق بالموكل ; لأن الحقوق تابعة لحكم التصرف ، والحكم وهو الملك يتعلق بالموكل ، فكذا توابعه وصار كالرسول والوكيل بالنكاح . [ ص: 16 ] ولنا أن الوكيل هو العاقد حقيقة ; لأن العقد يقوم بالكلام ، وصحة عبارته لكونه آدميا وكذا حكما ; لأنه يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل ، ولو كان سفيرا عنه لما استغنى عن ذلك كالرسول ، وإذا كان كذلك كان أصيلا في الحقوق فتتعلق به ولهذا قال في الكتاب ( يسلم المبيع ويقبض الثمن ويطالب بالثمن إذا اشترى ، ويقبض المبيع ويخاصم في العيب ويخاصم فيه ) ; لأن كل ذلك من الحقوق والملك يثبت للموكل خلافة عنه ، [ ص: 17 ] اعتبارا للتوكيل السابق كالعبد يتهب ويصطاد هو الصحيح . [ ص: 18 ] قال العبد الضعيف : وفي مسألة العيب تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( والعقود التي يعقدها الوكلاء على ضربين ) وقال في بعض نسخه : والعقد الذي يعقده الوكلاء : أي جنس العقد كذا في غاية البيان ( كل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه ) أي تصح إضافته إلى نفسه ويستغنى عن إضافته إلى الموكل ( كالبيع والإجارة فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل ) أقول : هذه الكلية تنتقض بما إذا كان الوكيل صبيا محجورا عليه أو عبدا محجورا عليه ، فإن حقوق عقدهما تتعلق بالموكل وإن كان العقد مما يضيفه الوكيل إلى نفسه كما عرفته فيما مر .

( وقال الشافعي : تتعلق بالموكل ) وبه قال مالك وأحمد ( لأن الحقوق تابعة لحكم التصرف والحكم وهو الملك يتعلق بالموكل فكذا توابعه وصار ) أي صار الوكيل في هذا الضرب ( كالرسول ) فإن قال رجل لآخر : كن رسولي في بيع عبدي وحقوق العقد لا تتعلق بالرسول بلا خلاف ( والوكيل بالنكاح ) أي وصار كالوكيل بالنكاح من الضرب الثاني فإن حقوق عقد النكاح تتعلق بالموكل اتفاقا كما سيجيء [ ص: 16 ] ولنا أن الوكيل هو العاقد ) يعني أن الوكيل في هذا الضرب هو العاقد ( حقيقة ) أي من حيث الحقيقة ( لأن العقد يقوم بالكلام وصحة عبارته ) أي وصحة عبارة العاقد : أي صحة كلامه ( لكونه آدميا له أهلية الإيجاب والاستيجاب لا لكونه وكيلا ) ، فكان العقد الواقع منه ولغيره سواء .

وفي الكافي : فقضيته تستدعي أن يكون الحاصل بالتصرف واقعا له غير أن الموكل لما استنابه في تحصيل الحكم جعلناه نائبا في حق الحكم وراعينا الأصل في حق الحقوق ( وكذا حكما ) أي وكذا الوكيل في هذا الضرب هو العاقد من حيث الحكم ( لأنه ) أي الوكيل ( يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل لو كان سفيرا ) عنه ( لما استغنى عن ذلك ) أي عن إضافة العقد إلى الموكل ( كالرسول ) والوكيل بالنكاح فإنهما لا يستغنيان عن الإضافة إليه ( وإذا كان كذلك ) أي إذا كان الوكيل في هذا الضرب هو العاقد حقيقة وحكما ( كان أصيلا في الحقوق فتتعلق ) حقوق العقد ( به ) أي تتعلق الحقوق بالوكيل دون الموكل ( فلهذا ) أي فلكون الوكيل في هذا الضرب أصلا في الحقوق ( قال في الكتاب ) أي قال القدوري في المختصر . وقيل : أي قال محمد رحمه الله تعالى في الجامع الصغير أو المبسوط ( يسلم المبيع ) أي يسلم الوكيل المبيع ( ويقبض الثمن ) إذا باع ( ويطالب ) بصيغة المجهول : أي يطالب الوكيل ( بالثمن إذا اشترى ويقبض المبيع ) أي ويقبض المبيع إذا اشترى ( ويخاصم في العيب ويخاصم فيه ) بفتح الصاد في الأول وكسرها في الثاني ، فالأول فيما إذا باع ، والثاني فيما إذا اشترى على الترتيب السابق .

واعلم أن هاهنا فائدة جليلة يجب التنبه لها قد ذكرها صدر الشريعة في شرح الوقاية حيث قال : يجب أن يعلم أن الحقوق نوعان : حق يكون للوكيل ، وحق يكون على الوكيل . فالأول كقبض المبيع ومطالبة ثمن المشتري والمخاصمة في العيب والرجوع بثمن مستحق . ففي هذا النوع للوكيل ولاية هذه الأمور لكن لا تجب عليه ، فإن امتنع لا يجبره الموكل على هذه الأفعال ; لأنه متبرع في العمل بل يوكل الموكل بهذه الأفعال ، وسيأتي في كتاب المضاربة بعض هذا ، وإن مات الوكيل فولاية هذه الأفعال لورثته ، فإن امتنعوا وكلوا موكل مورثهم . وعند الشافعي للموكل ولاية هذه الأفعال بلا توكيل من الوكيل أو وارثه . وفي النوع الآخر يكون الوكيل مدعى عليه فللمدعي أن يجبر الوكيل على تسليم المبيع وتسليم الثمن وأخواتهما إلى هنا كلامه ( والملك يثبت للموكل خلافة عنه ) أي عن الوكيل ، هذا جواب عما قاله الشافعي إن الحقوق تابعة لحكم التصرف ، والحكم وهو الملك يتعلق [ ص: 17 ] بالموكل فكذا توابعه . تقريره أن الملك يثبت للموكل ابتداء ، لكن لا أصالة حتى يثبت له توابعه أيضا بل خلافة عن الوكيل ، ومعنى الخلاف أن يثبت الملك للموكل ابتداء وينعقد السبب موجبا حكمه للوكيل فكان الموكل قائما مقام الوكيل في ثبوت الملك ( اعتبارا للتوكيل السابق ) والحاصل أن الوكيل خلف عن الموكل في حق استفادة التصرف والموكل خلف عن الوكيل في حق ثبوت الملك ( كالعبد يتهب ويصطاد ) فإنه إذا اتهب : أي قبل الهبة واصطاد يثبت الملك للمولى ابتداء خلافة عن العبد ، فإن ولاه يقوم مقامه في الملك بذلك السبب كما ذكر في المبسوط .

وتحقيق المسألة أن لتصرف الوكيل جهتين : جهة حصوله بعبارته وجهة نيابته ، وإعمالهما ولو بوجه أولى من إهمال أحدهما ، فلو أثبتنا الملك والحقوق للوكيل على ما هو مقتضى القياس لحصولهما بعبارتهم وأهليته بطل توكيل الموكل ، ولو أثبتناهما للموكل بطل عبارة الوكيل . فأثبتنا الملك للموكل ; لأنه الغرض من التوكيل ، وإليه أشار المصنف بقوله اعتبارا للتوكيل السابق فتعين الحقوق للوكيل ، ويجوز أن يثبت الحكم لغير من انعقد له السبب كالعبد يقبل الهبة والصدقة ويصطاد فإن مولاه يقوم مقامه في الملك بذلك السبب ، كذا في العناية . ثم اعلم أن هذا الملك طريقة أبي طاهر الدباس وإليه ذهب جماعة من أصحابنا .

قال شمس الأئمة السرخسي : قول أبي طاهر أصح . وقال المصنف ( هو الصحيح ) واحترز به عن طريقة أبي الحسن الكرخي وهي أن الملك يثبت للوكيل أولا ثم ينتقل إلى الموكل ، وإليها ذهب بعض أصحابنا وهي اختيار الإمام قاضي خان كما ذكر في التحرير ، وإنما قال هو الصحيح ; لأن الوكيل إذا اشترى منكوحته أو قريبه لا يفسد النكاح ولا يعتق عليه ، ولو لم يثبت له الملك لما كان كذلك . قال صاحب العناية : وجوابه أن نفوذ العتق يحتاج إلى ملك مستقر دائم وملك الوكيل غير مستقر ولا دائم فيه بل يزول عنه في ثاني الحال وينتقل إلى الموكل باعتبار الوكالة السابقة .

قال في الزيادات فيمن تزوج أمة ثم حرة على رقبتها فأجاز مولاها فإنه تصير الأمة مهرا للحرة ولا يفسد النكاح وإن ثبت الملك للزوج فيها ; لأن ملكه غير مستقر حيث ينتقل منه إلى الحرة فكذلك هاهنا انتهى . قال صاحب العناية بعد ذكر هذا الجواب : وفيه نظر ; لأنه يخالف إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه الحديث انتهى . أقول : الجواب عن هذا النظر [ ص: 18 ] ظاهر ، إذ قد تقرر عندهم أن المطلق ينصرف إلى الكامل ، ولا شك أن الملك الكامل هو الملك المستقر فلا مخالفة . قال الصدر الشهيد : إن القاضي أبا زيد خالفهما وقال : الوكيل نائب في حق الحكم أصيل في حق الحقوق ، فإن الحقوق تثبت له ثم تنتقل إلى الموكل من قبله فوافق أبا الحسن في حق الحقوق ، ووافق أبا طاهر في حق الحكم وهذا حسن ، كذا ذكر في الإيضاح والفتاوى الصغرى ( قال رضي الله عنه ) أي قال المصنف رحمه الله ( وفي مسألة العيب تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى ) أراد به ما ذكره في باب الوكالة بالبيع والشراء بقوله : وإذا اشترى الوكيل ثم اطلع على عيب فله أن يرده بالعيب ما دام المبيع في يده ، وإن سلمه إلى الموكل لم يرده إلا بإذنه ، كذا في عامة الشروح .

قال بعض الفضلاء : القصر عليه قصور بل الظاهر عموم الحوالة لما يذكره في فصل في البيع بقوله ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وقبض الثمن أو لم يقبض فرده عليه المشتري بعيب إلخ . أقول : الذي يتعلق بما نحن فيه من تعلق حقوق العقد بالوكيل دون الموكل من المسائل الآتية في الكتاب إنما هو الذي ذكره الشراح هاهنا ، فإن الوكيل إذا اشترى شيئا ثم اطلع على عيب فله أن يرده على بائعه بمقتضى تعلق حقوق عقد الشراء بالوكيل . ثم بعد هذا إن بقي المبيع في يده يبقى حق الرد له ، وإن لم يبق في يده بل كان سلمه إلى الموكل يسقط ذلك الحق عنه لانتهاء حكم الوكالة بالتسليم فيتوقف الرد على إذن الموكل . ولما لم يعلم هذا التفصيل هاهنا وكان مما يحتاج إلى بيانه أحاله المصنف رحمه الله على ما سيذكره في فصل الوكالة بالشراء من باب الوكالة بالبيع والشراء .

وأما الذي يذكره في فصل الوكالة بالبيع بقوله ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وقبض الثمن أو لم يقبض فرده عليه المشتري بعيب إلخ فمما لا مساس له بما نحن فيه ، فإن حاصل ذلك أنه إذا رد العبد على الوكيل بالبيع بعيب فإن رد عليه بحجة كاملة يرده على الموكل ، وإن رد عليه بحجة قاصرة لا يرده عليه ، وهذا أمر وراء تعلق حقوق العقد بالوكيل يجري بين الموكل والوكيل ، ولا شك أن المقصود بالحوالة ما يتعلق بما نحن فيه لا ما يتعلق بمجرد العيب ، فلهذا لم يعممها الشراح كما توهمه ذلك القائل




الخدمات العلمية