الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2666 2821 - حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ، أن محمد بن جبير قال : أخبرني جبير بن مطعم ، أنه بينما هو يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الناس ، مقفله من حنين ، فعلقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة ، فخطفت رداءه ، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أعطوني ردائي ، لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا " . [3148 - فتح: 6 \ 35]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أنس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس ، وأشجع الناس ، وأجود الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - سبقهم على فرس ، قال : "وجدناه بحرا " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث جبير بن مطعم ، أنه بينما هو يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الناس ، مقفله من حنين ، تعلقت الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة ، فخطفت رداءه ، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : "أعطوني ردائي ، لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 427 ] الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الأول سلف قريبا في باب من استعار من الناس الفرس ويأتي في الأدب ، وأخرجه مسلم في الفضائل ، والترمذي في الجهاد ; وقال : صحيح ، وكذا النسائي وابن ماجه .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث جبير يأتي في الخمس .

                                                                                                                                                                                                                              والفرق بين الجبن والبخل :

                                                                                                                                                                                                                              البخل : أن يضن الإنسان بماله أن يبذله في المكارم .

                                                                                                                                                                                                                              والجبن : ضد الشجاعة ، وإنما يكون من ضعف القلب و (خشية ) النفس .

                                                                                                                                                                                                                              ثم الكلام من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : فيه : -كما قال المهلب - أن الرئيس قد يتشجع في بعض الأوقات إذا وجد في نفسه قوة ، وإن كان اللازم له أن يحوط أمر المسلمين بحياطة نفسه ، لكنه لما رأى الفزع المستولي ، علم أنه لم يكد مما أخبره الله به من العصمة ، وأنه لا بد أن يتم أمره حتى تمر المرأة من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ، فلذلك أمن فزعهم باستبراء الصحراء ، وكذلك كل رئيس إذا استولى على قومه الفزع ووجد من نفسه قوة فينبغي له أن يذهب عنهم الفزع باستبرائه بنفسه .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : فيه : استعمال المجاز في الكلام ; لقوله في الفرس : "وجدناه بحرا " ، فشبهه بذلك لأن الجري منه لا ينقطع كما لا ينقطع

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 428 ] ماء البحر ، وأول من تكلم بهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويأتي له تتمة في باب : اسم الفرس والحمار بعد إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : فيه : استعارة الدواب للحرب وغيره ، وقد سلف ، وركوب الدابة عريا لاستعجال الحركة .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : في الحديث الثاني : أنه لا بأس للرجل الفاضل أن يخبر عن نفسه فيما فيه من الخلال الشريفة عندما يخاف من سوء ظن أهل الجهالة به .

                                                                                                                                                                                                                              خامسها : فيه : أن البخل والجبن والكذب من الخلال المذمومة التي لا تصلح أن تكون في رؤساء الناس ، وأن من كانت فيه خلة منها لم يتخذه المسلمون إماما ولا خليفة ، وكذلك من كان كذوبا فلا يتخذ إماما في دين الله ; لأن الكذب فجور ويهدي إليه كما نطق الشارع به ، ولا يؤمن على وحي الله وسنة رسوله الفجار ، وإنما يؤمن عليه أهل العدل ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " .

                                                                                                                                                                                                                              سادسها :

                                                                                                                                                                                                                              (فيه ) : أن الإلحاف في المسألة قد يرد بالقول والعدة كما قال : "لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم " والوعد منه في حكم الإنجاز واجب ، لقوله : "ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا " .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الصبر لجهلة الناس وجفاة السؤال ، وإن ناله في ذلك أذى ، وسؤاله رداءه تأنيسا لهم من الأذى بالجفاء عليه ، والمزاحمة في الطريق

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 429 ] ثم رد إلحافهم بأن أعلمهم أن ما ملكه مقسوم بينهم ، وأن وعده منجز لهم ، وأن الذي يسألونه من قتالهم وعونهم له ليسوا بالمتقدمين عليه فيه ، بل هو المقدم عليهم في القتال ، وفي كل حاله لقوله : "ولا جبانا " ولم ينكر أحد ما وصف به نفسه لاعترافهم به .

                                                                                                                                                                                                                              سابعها : "العضاه " كما قال أبو عبيد : من الشجر كل ما له شوك ومن أعرف ذلك الطلح والسلم والسيال والعرفط والسمر ، وقال غيره : والقتاد ، قال ابن التين : وتقرأ بالهاء وقفا ووصلا ، وهو شجر الشوك كالطلح والعوسج والسدر ، الواحدة عضاهة وعضهة ، (وعضة ) ، وإنما ذلك لأنهم حذفوا منها الهاء الأصلية كما حذفت في شفة ، ثم ردت في عضاه كما ردت في شفاه ، وقال ابن فارس : الواحدة عضه الهاء أصلية ، قال : وقد يقال : عضة مثل عزة ، وهذا بعير عضه إذا كان يأكل العضاه .

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها : قوله : (مقفله من حنين ) أي : مرجعه ، وذلك سنة ثمان .

                                                                                                                                                                                                                              و (السمرة ) واحدة السمر ، وهي شجر طوال متفرق الرءوس ، قليل الظل ، صغار الورق ، قصار الشوك ، جيد الخشب ، ولم يواره صفر أو صمغ أبيض ، قليل المنفعة ، ويخرج من السمرة شيء يشبه الدم ، يقال : حاضت السمرة إذا خرج منها ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              تاسعها : قوله : ("نعما " ) وفي بعض النسخ : "نعم " وهما صحيحان ، فـ "نعم " اسم كان و"عدد " خبرها ، ومن رواه "نعما " فهو خبر كان ، قال ابن التين : وهذا أولى ; لأن نعما نكرة ، وهو أولى أن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 430 ] يكون خبرا ، ويصح نصبه على التمييز ، والنعم الإبل خاصة ، كذا قال أكثر أهل التفسير .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو جعفر النحاس : قيل : النعم للإبل والبقر والغنم ، وإن انفردت الإبل قيل لها نعم ، وإن انفردت البقر والغنم لم يقل لها نعم .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في (الأنعام ) فقيل هي جمع نعم ، فيكون للإبل خاصة ، وقيل : إذا قلت (أنعام ) دخل فيه البقر والغنم .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في النعم هل تؤنث فنقول هذه نعم ، فأكثرهم على جوازه ، وقال الفراء : لا يؤنث .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر : قوله : ("ثم لا تجدوني بخيلا " ) قد تقدم بيانه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القزاز : البخيل : الشحيح ، وقال ابن مسعود : لا يعطي شيئا ، والشح : أخذك مال أخيك بغير حق ، وقال طاوس : البخل : أن تبخل مما في يديك ، والشح : أن تشح مما في أيدي الناس ، يحب أن يكون له ما في أيدي الناس بالحلال والحرام ، وقيل : البخل في اللغة دون الشح ، والشح أشد منه ، يقال : جوزة شحيحة إذا كانت صحيحة ، يقال : بخل يبخل بخلا وبخلا ، والجبان : الذي يرع في الحرب ويضعف ، وذلك يؤدي إلى الفرار من الزحف ، وهي كبيرة ، يقال : جبن يجبن جبنا وجبنا ، وجمع الجبان جبن .

                                                                                                                                                                                                                              (قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                              جهلا علينا وجبنا عن عدوكم لبئست الخلتان الجهل والجبن )






                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية