الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة : ( والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل ) .

وجملة ذلك : أن الوقوف بمزدلفة - في الجملة واجب . تارة يعبر عنه أحمد بالوقوف بمزدلفة ، وتارة يعبر بالمبيت بمزدلفة لقوله سبحانه : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ) والمشعر الحرام : مزدلفة كلها كما تقدم . وإن أريد به نفس قزح فقد أمر بالذكر عنده ، وذلك يحصل بالوقوف فيما حوله ، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن بطن محسر " .

وأيضا : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بها ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، وقال : " هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف " ، كما قال : " هذا الموقف وعرفة كلها موقف " .

فإن طلعت الشمس ولم يقف بالمزدلفة فعليه دم ، وحجه صحيح .

قال أحمد - في رواية ابن القاسم - : ليس أمر جمع عندي كعرفة ، ولا أرى الناس جعلوها كذلك .

وقال صالح : سألت أبي عن رجل فاته الوقوف بجمع ، وقد وقف بعرفة ، ومر بجمع بعد طلوع الشمس ؟ قال : عليه دم .

وقال أبو طالب : سألت أحمد عن حديث عروة الطائي : " من صلى معنا صلاة الصبح ، وقد أتى عرفات قبل ذلك ، ليلا أو نهارا فقد تم حجه " قال : هذا شديد ، قلت : فكيف يصنع من أتى عرفات ، ولم يشهد جمعا مع الإمام ؟ قال : هذا أحسن حالا ممن لم يجئها .

وقد رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للضعفة أن يتعجلوا بليل وصلى عمر - [ ص: 608 ] رضوان الله عليه - وجعل ينتظر الأعرابي ، وقد جاء الأعرابي ، قلت : فيجزئه إذا أتى عرفة ، ثم لم يدرك جمعا ؟ قال : هذا مضطر ، أرجو أن يجزئه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم الضعفة ولم يشهدوا معه . قلت : أليس من لم يقف بجمع عليه دم ؟ قال : نعم عليه دم . إذا لم يقف بجمع عليه دم ، لكن يأتي جمعا فيمر قبل الإمام ، قلت : قبل الإمام يجزئه ؟ قال : نعم ، قد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الضعفة .

وقال حنبل : قال عمي : من لم يقف غداة المزدلفة ليس عليه شيء ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم الضعفة ، ولا ينبغي له أن يفعل إلا أن يكون معه ضعفة ، أو غلمة ، وعليه أن يبيت ليلة المزدلفة ، وإن لم يبت فعليه دم ، وسئل عمن لم يأت جمعا ؟ قال : ليس عليه شيء إذا أخطأ الطريق ، أو كان جاهلا فليس عليه شيء إذا لم ينزل ، وهو قول الحسن - رضي الله عنه - .

وقال حرب : قلت لأحمد : رجل أتى عرفة قبل طلوع الفجر ؟ قال : حجه جائز إذا وقف بعرفة قبل طلوع الفجر ، قيل : فإن لم يقف بجمع جائز .

[ ص: 609 ] وأحكام جمع - مضطربة - تتلخص في مسائل :

الأولى : أن الوقوف بها واجب في الجملة ; لما تقدم .

الثانية : أنه ليس بركن فمن فاته الوقوف بها حتى طلعت الشمس لعذر صح حجه ، وإن تعمد ترك إتيانها ، أو سلك إلى منى غير طريقها ، فكلامه يقتضي روا..... ، ينظر ألفاظ الأحاديث ; وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم : لما سألوه وهو واقف بعرفة كيف ؟ فقال : " الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج " ومعلوم أنه لو كان الحج يفوت بفوات المزدلفة : لما قال : " الحج عرفة " ، بل قال : الحج عرفة ومزدلفة .

وقوله : من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج : يدل على أمن الفوات ; لأن من أدرك العبادة لا تفوته البتة ، ولو كان ترك الوقوف بمزدلفة يفوت الحج ، لم يكن الواقف بعرفة مدركا . وهذا كقوله : " من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر " نعم . يمكن أن يوجد بعد الإدراك ما يبطل العبادة ، ولا يبطل الحج إلا الوطء . فأما ترك واجب مؤقت يكون تركه فواتا للحج فلا . ألا ترى أنه لما أراد أن يبين ما به يتم الحج قال : " من شهد معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا - فقد تم حجه وقضى تفثه " . فجعل الوقوف بمزدلفة بعد التعريف ، به يتم الحج ، ويقضى التفث ، إذ لم يبق بعده إلا التحلل برمي جمرة العقبة وما بعده ، فعلم بهذين الحديثين أنه بالوقوف بعرفة يدرك الحج ، ويؤمن فواته ، فلو كان بعده ركن مؤقت لم يدرك ، ولم يؤمن الفوات ، وبالوقوف بمزدلفة يتم الحج ، ويقضى التفث .

[ ص: 610 ] وأيضا : ما احتج به أحمد من إجماع الناس حيث قال : ليس أمره عندي كعرفة ، ولا أرى الناس جعلوها كذلك ، فذكر أنه لم ير أحدا من الناس سوى بينهما ، مع معرفته لمذاهب الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من أئمة الفتوى .

وعن ابن عمر قال : "من وقف بعرفة بليل فقد أدرك الحج ، وإن لم يدرك الموقف بجمع" .

وعن ابن عباس قال : " الحج عرفات ، والعمرة لا يجاوز بها البيت ، ومن لم يحل عند البيت فلا عمرة له" .

الثالثة : أن من فاته الوقوف بها والمبيت فعليه دم ، هذا هو المذهب المنصوص في رواية صالح وغيره .

ويحتمل كلامه في رواية حنبل ، وأبي طالب إذا تركها لعذر لا شيء عليه .

وخرج القاضي وابن عقيل فيمن لم يمر بها حتى طلعت الشمس ، أو أفاض منها أول الليل : لا شيء عليه ; تخريجا من إحدى الروايتين في المبيت بمنى ; لأن المبيت ليس بمقصود لنفسه ، وإنما يقصد للوقوف في غداتها ، وذلك ليس بواجب ، فما يقصد له أولى .

وهذا التخريج فاسد على المذهب ، باطل في الشريعة ; فإن بين الوقوف [ ص: 611 ] بمزدلفة والمبيت بمنى من المباينة في الكتاب والسنة ، ما لا يجوز معه إلحاق أحدهما بالآخر ، إلا كإلحاق الوقوف بين الجمرتين بالوقوف بعرفة .

وقولهم : ليس بمقصود قد منعه من يقول : إن الوقت يمتد إلى طلوع الفجر .

والتحقيق : أن المقصود هو الوقوف بالمشعر الحرام ، ووقته من أواخر الليل إلى طلوع الشمس كما سيأتي .

الرابعة : أنه يفوت وقتها بطلوع الفجر ، فمن لم يدركها قبل ذلك فعليه دم . هذا هو الذي ذكره القاضي وعامة أصحابنا بعده ; لقول أحمد : وعليه أن يبيت بالمزدلفة ، فإن لم يبت فعليه دم ; لأن الواجب هو المبيت بالمزدلفة . والمبيت إنما يكون بالليل كالمبيت بمنى ، فإذا طلع الفجر ذهب وقت المبيت ، وأصحاب هذا القول : لا يرون الوقوف بالمزدلفة واجبا ، وإنما الواجب عندهم المبيت بها ، ولا يرون الوقوف غداة جمع من جنس الواجب ، بل من جنس الوقوف بين الجمرتين ، وهذا القول في غاية السقوط لمن تدبر الكتاب والسنة ، ونصوص الإمام أحمد والعلماء قبله .

ونقل عنه صالح - في رجل فاته الوقوف بجمع وقد وقف بعرفة ، ومر بجمع بعد طلوع الشمس قال : عليه دم .

ونقل عنه المروذي : إذا وقف بعرفة ، فغلبه النوم حتى طلعت الشمس عليه دم . فأوجب الدم بفوات الوقوف بها إذا طلعت الشمس .

وكذلك قال في رواية أبي طالب : إذا لم يقف بجمع عليه دم ، ولكن يأتي [ ص: 612 ] جمعا فيقف قبل الإمام ويجزئه ، فجعل الموجب للدم عدم الوقوف ، فإذا وقف مع الإمام أو قبله فلا دم عليه ، وكذلك احتج بحديث عمر لما انتظر الأعرابي ، وإنما جاء بعد طلوع الفجر .

وعلى هذا إذا لم يقف قبل طلوع الفجر فعليه أن يقف بعد طلوعه ، وهذا هو الصواب أن وقت الوقوف لا يفوت إلى طلوع الشمس ، فمن وافاها قبل ذلك فقد وقف بها ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بها وأفاض قبيل طلوع الشمس ، وهذا الوقوف المشروع في غداتها هو المقصود الأعظم من الوقوف بمزدلفة ، وبه يتم امتثال قوله : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) الآية . وإليه الإشارة بقوله : "هذا هو الموقف وجمع كلها موقف ، وارفعوا عن بطن محسر" وهذا نظير الوقوف عشية عرفة ، وأحد الموقفين الشريفين ، فكيف لا يكون له تأثير في الوجوب وجودا وعدما ؟ أم كيف لا يكون هذا الزمان وقتا للنسك المشروع بمزدلفة ؟

وأيضا : فإن عروة بن مضرس أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمزدلفة حين خرج لصلاة الفجر ، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أدرك معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه " .

وهذا نص في مزدلفة تدرك بعد طلوع الفجر كما تدرك قبل الفجر ; لأن هذا السائل إنما وافاها بعد طلوع الفجر ، وأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء حجه ، ولم يخبره أن عليه دما ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، ولا يصح أن يقال : فلعله دخل فيها قبل الفجر . . .

[ ص: 613 ] ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من أدرك الصلاة والموقف بجمع ، ووقف قبل ذلك بعرفات ، فقد تم حجه ، ولم يذكر دما ولا غيره ، ولم يشترط إدراك مزدلفة قبل الفجر ، بل نص على الاكتفاء بإدراك الوقوف مع الناس .

وفي لفظ : " من أدرك إفاضتنا هذه " والإفاضة قبيل طلوع الشمس ، فأين يذهب عن البيان الواضح من النبي صلى الله عليه وسلم .

ولأن من أدرك عرفة قبيل الفجر فمحال أن يدرك المزدلفة تلك الليلة ، فلو كان هذا المدرك لعرفة قد فاتته المزدلفة وعليه دم لم يصح أن يقال : من أدرك عرفة أدرك الحج مطلقا ، فإنه قد فاته بعض الواجبات ، بل أعظم الواجبات ; ولذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون بعده : صرحوا بأن من طلع عليه الفجر بعرفة فقد أدرك الحج ، من غير ذكر لدم ، ولا تفويت الوقوف بالمزدلفة .

وأيضا : فإيجاب النسك باسم المبيت بمزدلفة ، لم ينطق كتاب ولا سنة ، ولا ذكره الصحابة والتابعون ، بل الذي في كتاب الله قوله : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) وهذا يقتضي التعقيب ; لقوله : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) فمن أفاض من عرفات عند طلوع الفجر يذكر الله إذا أفاض بعد طلوع الفجر بنص الآية .

وأيضا : فإن الله أمر كل مفيض من عرفات بذكره عند المشعر الحرام ، فلو كان وقت هذا الواجب يفوت بطلوع الفجر ، لم يمكن كل مفيض امتثال هذا الأمر .

وأيضا : فإن وقت التعريف يمتد إلى طلوع الفجر ، فلا بد أن يكون عقيبه وقت [ ص: 614 ] للمشعر الحرام ; لئلا يتداخل وقت هذين النسكين .

وأما السنة : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الوقوف بالمزدلفة ، وشهود صلاة الصبح ، والوقوف معه ، وإنما جاء المبيت بمزدلفة تبعا لأن الوقوف بعد الفجر ، وإنما يكون ذلك بعد المبيت ، فكيف يكون المقصود تبعا والتبع مقصودا ؟ !

وأيضا : فما روى إبراهيم عن الأسود : " أن رجلا قدم على عمر بن الخطاب وهو بجمع بعدما أفاض من بعرفات ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قدمت الآن ، فقال : أما كنت وقفت بعرفات ؟ قال : لا ، قال : فأت عرفة وقف بها هنيهة ، ثم أفض . فانطلق الرجل ، وأصبح عمر بجمع ، وجعل يقول : أجاء الرجل ؟ فلما قيل : قد جاء أفاض" رواه سعيد بإسناد صحيح ، واحتج به أحمد .

فهذا رجل إنما أدرك الناس قبل الإفاضة من جمع ; لأن مجيئه إلى مزدلفة قبل التعريف لا أثر له ، فإن مزدلفة إنما يصح المبيت والوقوف بها بعد عرفة ، ومع هذا لم يأمره عمر بدم ، بل انتظره ليقف مع الناس ، ولو كان وقت الوجوب قد ذهب لما كان لانتظاره معنى .

وأيضا : فإن الوقوف بالمزدلفة بعد الوقوف بعرفة بنص القرآن والسنة . والعبادات المتعاقبة لا يجوز دخول وقت إحداهما في وقت الأخرى ، كأوقات الصلوات .

[ ص: 615 ] ووقت عرفة يمتد إلى طلوع الفجر ، فلو كان وقت مزدلفة ينتهي إلى ذلك الوقت ، لكان وقت مزدلفة بعض وقت عرفة ، وذلك لا يجوز .

وأما قولهم : المبيت بمزدلفة واجب .

قلنا : هذا غير مسلم ، فإن من أدركها في النصف الثاني ، أو قبيل طلوع الفجر لا يسمى بائتا بها ، ألا ترى أن المبيت بمنى لما كان واجبا ، لم يجز أن يبيت بها لحظة من آخر الليل حتى يبيت بها معظم الليل . نعم من أدركها أول الليل فعليه أن يبيت بها إلى آخر الليل ; لأجل أن الوقوف المطلوب هو في النصف الآخر ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وصار هذا مثل الوقوف الواجب بعرفة هو آخر النهار ، فإذا نزلوا بنمرة أقاموا إلى نصف النهار لانتظار الوقوف ، لا لأن النزول بنمرة هو المقصود ، ولو تأخر الإنسان إلى وقت الوقوف أجزأ ، كذلك هنا .

الخامسة : من وافاها أول الليل : فعليه أن يبيت بها ، بمعنى أن يقيم بها ، لا يجوز له الخروج منها إلى آخر الليل .

قال أحمد - في رواية حنبل - : وعليه أن يبيت بمزدلفة ، وإن لم يبت فعليه دم .

ثم إن كان من أهل الأعذار ; مثل النساء ، والصبيان ، والمرضى ، ومن يقوم بهم فله الدفع منها في آخر الليل من غير كراهة كما تقدم .

وأما غيرهم فالسنة له أن يقيم إلى أن يقف بعد طلوع الفجر .

وفي الوقت الذي يجوز الدفع فيه روايتان :

إحداهما : يجوز الدفع بعد نصف الليل ، قال حرب : قلت لأحمد : رجل خرج من المزدلفة نصف الليل ، فأتى [ ص: 616 ] منى وعليه ليل يرمي الجمار ؟ قال : نعم أرجو أن لا يكون به بأس ، قلت لأحمد : فإنه مضى من حتى أتى مكة فطاف طواف الزيارة قبل أن يطلع الفجر ؟ قال : لا يمكنه أن يأتي مكة بليل .

ولعل حربا سأل أحمد عن هاتين المسألتين في وقتين ; لأن في أول المسألة أنه أباح الإفاضة نصف الليل ، وفي آخرها قال : لا يجوز الخروج من جمع حتى يغيب القمر ، وبينهما زمن جيد . وقال - عنه - في موضع آخر وقد سئل عن الإفاضة من جمع من غير عذر ؟ فقال : أرجو ، إلا أنه قال : في وجه السحر . وهذا قول القاضي ومن بعده من أصحابنا ، لما روي عن عائشة قالت : " أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت ، فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعني عندها " رواه أبو داود .

وفي رواية لابن أبي حاتم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أم سلمة [ ص: 617 ] قالت : " قدمني النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة ، قالت : فرميت الجمرة بليل ، ثم مضيت إلى مكة ، فصليت بها الصبح ، ثم رجعت إلى منى " .

قالوا : ومن المنزل إلى مكة نحو من سبعة أميال أو أكثر ، ومن موقف الإمام بعرفة إلى باب المسجد الحرام بريد ، اثنا عشر ميلا .

ومن يسير إلى منى ويرمي الجمرة ويطوف للإفاضة ، ثم يصلي الصبح ، لا يقطع سبعة أميال إلا أن يكون أفاض بليل .

ولأن أكثر الشيء يقوم مقام جميعه ، فإذا بات أكثر الليل بالمزدلفة صار في حكم من بات جميعها ، لما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإفاضة منها قبل طلوع الفجر .

فعلى هذا : العبرة بنصف الليل المنقضي بطلوع الفجر أو بطلوع . . .

والرواية الثانية : لا تجوز الإفاضة قبل مغيب القمر ، وإنما يغيب قبل الفجر بمنزلتين من منازل القمر ، وهما أقل من ساعتين .

قال - في رواية حرب أيضا - : لا يجوز أن يخرج من جمع حتى القمر . وأكثر نصوصه على هذا ; لأن الذي في الأحاديث الصحيحة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص للضعفة أن يفيضوا من جمع بليل ، ولم يؤقته ، بل إنما قدمهم في وجه السحر .

وكان ابن عمر : " يقدم ضعفة أهله ، فيقومون عند المشعر الحرام [ ص: 618 ] بالمزدلفة ، فيذكرون الله ما بدا لهم ، ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام ، وقبل أن يدفع بهم ، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، وكان ابن عمر يقول : " أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم " متفق عليه .

ولم يجئ توقيت في حديث إلا حديث أسماء ، رواه عبد الله الهر مولاها : " أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : لا ، فصلت ساعة ، قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها : يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا ؟ قالت : يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن " متفق عليه .

فهذه أسماء : قد روت الرخصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلتها مؤقتة بمغيب القمر إذ كانت هي التي روت الرخصة وليس في الباب شيء مؤقت أبلغ من هذا . وسائر الأحاديث لا تكاد تبلغ هذا الوقت . وحديث أم سلمة لا يخالفه ، فإن ستة أميال : تقطع في أقل من ثلاث ساعات بكثير ، بل في قريب من ساعتين ، فإذا قامت بعد مغيب القمر : أدركت الفجر بمكة إدراكا حسنا وأما طوافها : ...

[ ص: 619 ] وعلى هذا ، فيكون المبيت واجبا إلى أن يبقى سبعا الليل إذا جعل آخره طلوع الشمس ، وذلك أقل من الثلث ، ولا يصلون إلى جمع إلا بعد أن يمضي شيء من الليل ، فتكون الإفاضة من جمع جائزة إذا بقي من وقت الوقوف الثلث . وتقدير الرخصة بالثلث له نظائر في الشرع ، والتقدير بالأسباع له نظائر خصوصا في المناسك ، فإن أمر الأسباع فيه غالب ، فيجوز أن يكون الوقوف بمزدلفة مقدرا بالأسباع .

التالي السابق


الخدمات العلمية