الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله : ( فتبينوا ) وهو أن يقع لواحد أن يقول : إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية ، بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان ، فكذلك نجتهد في أمورنا ، فقال : ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد ، بل الله بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين ، وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف ، والله إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق ، وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان ، فكأنه تعالى قال : توقفوا فيما يكون مشكوكا فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله ، وعلى قولنا : المخاطب بقوله : ( حبب إليكم ) هو المخاطب بقوله : ( لو يطيعكم ) إذا علمت معنى الآية جملة ، فاسمعه مفصلا ولنفصله في مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : لو قال قائل : إذا كان المراد بقوله : ( واعلموا أن فيكم رسول الله ) الرجوع إليه والاعتماد على قوله ، فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز ؟ نقول : الفائدة زيادة التأكيد ، وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال : هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله : راجعوا شيخكم ، وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقا عليه ، ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده ، فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ ، وأن الواجب مراجعته ، فإن كنتم لا تعلمون قعوده فهو قاعد ، فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود ، كأنه يقول : خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته ، ولا يخفى عليكم حسن مراجعته ، فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي ، بخلاف ما لو قال راجعوه ؛ لأنه حينئذ يكون قائلا بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق ، وبين الكلامين بون بعيد ، فكذلك قوله تعالى : ( واعلموا أن فيكم رسول الله ) يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته ، فإن كان خفي عليكم كونه فيكم ، فاعلموا أنه فيكم ، فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم ، وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : إذا كان المراد من قوله : ( لو يطيعكم ) بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو متبع للوحي فلم لم يصرح به ؟ نقول : بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل ، والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله ، فإن قوله : " ليس فيهما آلهة " لو قال قائل : لم قلت : إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل ، فقال : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] فكذلك ههنا لو قال : لا يطيعكم ، وقال قائل : لم لا يطيع لوجب أن يقال : لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم ، لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم ، كما قال تعالى : ( عزيز عليه ما عنتم ) [ التوبة : 128 ] فإن طاعتكم لا تفيده شيئا فلا [ ص: 107 ] يطيعكم ، فهذا نفي الطاعة بالدليل ، وبين نفي الشيء بدليل ، ونفيه بغير دليل فرق عظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال : ( في كثير من الأمر ) ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) [ آل عمران : 159 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : إذا كان المراد بقوله تعالى : ( حبب إليكم الإيمان ) ، فلا تتوقفوا ، فلم لم يصرح به ؟ قلنا : لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر ، يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه ، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة ؛ لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين ، فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوما متفقا عليه لم يقل : فلا تتوقفوا ، بل قال : ( حبب إليكم الإيمان ) ، أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : ما المعنى في قوله : ( حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) نقول : قوله تعالى : ( حبب إليكم ) أي قربه وأدخله في قلوبكم ، ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم ، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئا منها إذا حصل عنده وطال لبثه ، والإيمان كل يوم يزداد حسنا ، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم ، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ؛ ولهذا قال في الأول : ( حبب إليكم ) وقال ثانيا : ( وزينه في قلوبكم ) كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان ؟ فنقول : هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل ؛ لأن الإيمان الكامل المزين هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى : ( وكره إليكم الكفر ) وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان ، والفسوق هو الكذب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : هو ما قبل هذه الآية ، وهو قوله تعالى : ( إن جاءكم فاسق بنبإ ) سمى من كذب فاسقا ، فيكون الكذب فسوقا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : ما ذكره بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : ( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) [ الحجرات : 11 ] فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم ، وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل : فسقت الرطبة ، إذا خرجت ، وغير ذلك ؛ لأن الفسوق هو الخروج ، زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة ، لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي ، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى ، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو ، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطئ أو متعمد ، وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم ، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام ، فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب ، وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق ، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن ، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر ، وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( والفسوق ) يعني ما يظهر لسانكم أيضا ، ثم قال : ( والعصيان ) وهو دون الكل ، ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان ، وقال بعض الناس : الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة ، والعصيان هو الصغيرة ، وما ذكرناه أقوى .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( أولئك هم الراشدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 108 ] خطابا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه معنى لطيف : وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال : ( واعلموا أن فيكم رسول الله ) أي هو مرشد لكم ، فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين ، فقال في الأول : كفى النبي مرشدا لكم ما تسترشدونه ، فأشفق عليهم وأرشدهم ، وعلى هذا قوله : ( الراشدون ) أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية