الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4967 (6) باب

                                                                                              لا ييأس من قبول التوبة

                                                                                              ولو قتل مائة نفس

                                                                                              [ 2683 ] عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء . فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة . قال قتادة : قال الحسن : ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره . وزاد في أخرى : فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي .

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 20) ، والبخاري (347) ، ومسلم (2766) (46 و 48) ، وابن ماجه (2622) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ (6) ومن باب : لا ييأس من قبول التوبة ولو قتل مائة نفس ]

                                                                                              (قول الراهب لقاتل التسعة والتسعين : إنه لا توبة له) . دليل على : قلة علم [ ص: 90 ] ذلك الراهب ، وعدم فطنته ، حيث لم يصب وجه الفتيا ، ولا سلك طريق التحرز على نفسه ، ممن صار القتل له عادة معتادة ، فقد صار هذا مثل الأسد الذي لا يبالي بمن يفترسه ، فكان حقه ألا يشافهه بمنع التوبة مداراة لدفع القتل عن نفسه ، كما يداري الأسد الضاري ، لكنه أعان على نفسه ، فإنه لما آيسه من رحمة الله وتوبته قتله ، بحكم سبعيته ويأسه من رحمة الله وتوبته عليه ، ولما لطف الله به بقي في نفسه الرغبة في السؤال عن حاله . فما زال يبحث إلى أن ساقه الله تعالى إلى هذا الرجل العالم الفاضل ، فلما سأله نطق بالحق والصواب ، فقال له : ومن يحول بينك وبينها ؟ مفتيا ومنكرا على من ينفيها عنه ، ثم إنه أحاله على ما ينفعه ، وهو مفارقته لأرضه التي كانت غلبت عليه بحكم عادة أهلها الفاسدة ، ولقومه الذين كانوا يعينونه على ذلك ، ويحملونه عليه . وبهذا يعلم فضل العلم على العبادة ، فإن الأول غلبت عليه الرهبانية . واغتر بوصف الناس له بالعلم ، فأفتى بغير علم ، فهلك في نفسه وأهلك غيره .

                                                                                              والثاني كان مشتغلا بالعلم ومعتنيا به ، فوفق للحق ، فأحياه الله في نفسه ، وأحيا به الناس . قال القاضي : ومذهب أهل السنة والجماعة أن التوبة تكفر القتل كسائر الذنوب ، وهو قول كافة العلماء ، وما روي عن بعضهم من تشديد في الزجر وتورية في القول فإنما ذلك ; لئلا يجترئ الناس على الدماء ، وقد اختلف في قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها [ النساء : 93 ] فقيل : معناه : إن جازاه ، وقيل : الخلود : طول الإقامة لا التأبيد ، وقيل : الآية في رجل بعينه قتل رجلا له عليه دم بعد أخذ الدية ، ثم ارتد ، وقد تقدم القول على أن كل ما دون الشرك يجوز أن يغفره الله تعالى ، وأنه ليس من ذلك شيء كفرا ، قتلا كان أو ترك صلاة أو غيرها ، كما دل عليه قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] ولقوله في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : " تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ، ولا [ ص: 91 ] تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، فمن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه ، فأمره إلى الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه . ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة أيضا : " خمس صلوات افترضهن الله عز وجل على العباد ، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا ، كان له عند الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه " . وهذه حجج صريحة تبين فساد مذهب المكفرة بشيء من ذلك .

                                                                                              و (قوله : " نصف الطريق ") أي : بلغ نصفه ، يقال : نصف الماء والشجرة وغيرهما : إذا بلغ نصف ذلك .

                                                                                              و (قوله : نأى بصدره ) أي : نهض به مع ثقل ما أصابه من الموت ، وذلك دليل على صحة توبته وصدق رغبته .

                                                                                              و (قوله : " فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : إنه جاء تائبا مقبلا بقلبه ") . هذا نص صريح في أن الله تعالى أطلع ملائكة الرحمة على ما في قلبه من صحة قصده إلى التوبة وحرصه عليها ، وأن ذلك خفي على ملائكة العذاب حتى قالت : إنه لم يعمل خيرا قط . ولو اطلعت على ما في قلبه من التوبة ، لما صح لها أن تقول هذا ، ولا تنازع ملائكة الرحمة في قولها : إنه [ ص: 92 ] جاء تائبا مقبلا بقلبه ، بل شهدت بما في علمها ، كما شهد الآخرون بما تحققوه . لكن شهادة ملائكة الرحمة على إثبات ، وشهادة ملائكة العذاب على عدم علم ، وشهادة الإثبات مقدمة . فلا جرم لما تنازع الصنفان وخرج كلاهما عن الشهادة إلى الدعاوى ، بعث الله إليهما ملكا حاكما يفصل بينهما ، وصوره بصورة الآدمي ، إخفاء عن الملائكة وتنويها ببني آدم ، وأن منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا .

                                                                                              و (قوله : " فجعلوه بينهم ") فيه حجة لمالك على قوله : إن المتخاصمين إذا حكما بينهما رجلا يصلح للتحكيم لزمهما ما يحكم به ، وقد خالفه في ذلك الشافعي .

                                                                                              و (قوله : " فقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ") . دليل على أن الحاكم إذا تعارضت الأقوال عنده ، وتعذرت الشهادات ، وأمكنه أن يستدل بالقرائن على ترجيح بعض الدعاوى ، نفذ الحكم بذلك ، كما فعله سليمان عليه السلام حيث قال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما .

                                                                                              تنبيه : قال القاضي : جعل الله قربه من القرية علامة للملك عند اختلافهم مع عدمهم معرفة حقيقة باطنه التي اطلع الله عليها ، ولو تحققوا توبته لم يختلفوا ولم يحتاجوا للمقايسة .

                                                                                              قلت : وهذه غفلة منه عن قول ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله عز وجل . وهذا نص في أن ملائكة الرحمة علمت ما في قلبه ، فلو علمت [ ص: 93 ] ملائكة العذاب ما في قلبه لما تنازعوا ; لأن الملائكة كلهم لا يخفى عليهم أن التوبة إذا صحت في القلب ، وعمل على مقتضاها بالجوارح بالقدر الممكن ، مقبولة بفضل الله تعالى ، ووعده الصادق ، والأحسن ما ذكرناه إن شاء الله تعالى ، وإنما جعل الله قرب تلك الأرض سببا مرجحا لحجة ملائكة الرحمة ، ومصدقا لصحة التوبة ، وفيه دليل على أن أعمال الظاهر عنوان على الباطن .

                                                                                              و (قوله : " فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي ") . إنما كان ذلك لما حكم الحاكم بقياس الأرض . ويفهم منه أن الرجل كان أقرب إلى الأرض التي خرج منها ، فلو ترك الله الأرض على حالها ، لقبضته ملائكة العذاب ، لكن غمرته الألطاف الإلهية ، وسبقت له العناية الأزلية ، فقربت البعيد ، وألانت الحديد . ويستفاد منه أن الذنوب وإن عظمت ، فعفو الله أعظم منها ، وأن من ألهم صدق التوبة . فقد سلك به طريق اللطف والقربة .




                                                                                              الخدمات العلمية