الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1077 158 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، وذلك في رمضان.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الإسناد بعينه مثل إسناد الحديث الأول.

                                                                                                                                                                                  قوله: " صلى ذات ليلة في المسجد " ، أي: صلى صلاة الليل في ليلة من ليالي رمضان.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم صلى من القابلة " ، أي: من الليلة الثانية، وفي رواية المستملي : " ثم صلى من القابل "، أي: من الوقت القابل من الليلة القابلة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " من الليلة الثالثة أو الرابعة " كذا رواه مالك بالشك، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب " فصلى الناس بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا " ، وفي رواية مسلم عن يونس عن ابن شهاب " يتحدثون بذلك "، وفي رواية أحمد عن ابن جريج عن ابن شهاب " فلما أصبح تحدثوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد من جوف الليل فاجتمع أكثر منهم " وزاد يونس " فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الثانية فصلوا معه، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله " ، وفي رواية ابن جريج أيضا " حتى كاد المسجد يعجز عن [ ص: 177 ] أهله " ولأحمد في رواية عن معمر عن ابن شهاب " امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله " وله من رواية سفيان بن حسين عنه " فلما كانت الليلة الرابعة غص المسجد بأهله " .

                                                                                                                                                                                  قوله: " فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وفي رواية أحمد عن ابن جريج " حتى سمعت ناسا منهم يقولون: الصلاة "، وفي رواية سفيان بن حسين عنه " فقالوا: ما شأنه "، وفي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه كما سيأتي في الاعتصام حدثنا إسحاق أخبرنا عفان حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة سمعت أبا النضر يحدث عن بسر بن سعيد " عن زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " ، وأخرجه أيضا في "الأدب" ولفظه " احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجيرة مخصفة أو حجيرا، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها، فتتبع إليه رجال فجاءوا يصلون بصلاتهم، ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " ، وأخرجه مسلم أيضا، وفيه " فأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب " الحديث، وأخرجه أبو داود أيضا، وفيه " حتى إذا كان ليلة من الليالي لم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصبوا بابه " الحديث، وأخرجه الطحاوي أيضا نحو رواية البخاري .

                                                                                                                                                                                  قوله: " فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم " ، وفي رواية عقيل " فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس وتشهد، ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم " ، وفي رواية يونس وابن جريج " لم يخف علي شأنكم "، وفي رواية أبي سلمة " اكلفوا من العمل ما تطيقون " ، وفي رواية معمر أن الذي سأله عن ذلك بعد أن أصبح عمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن تفرض عليكم " ، أي: بأن تفرض عليكم صلاة الليل يدل عليه رواية يونس " ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها " وكذا في رواية أبي سلمة المذكور قبيل صفة الصلاة " خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل " فدلت هذه الروايات على أن عدم خروجه - صلى الله عليه وسلم - إليهم كان للخشية عن فرضية هذه الصلاة لا لعلة أخرى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وذلك في رمضان " كلام عائشة رضي الله تعالى عنها ذكرته إدراجا لتبين أن هذه القضية كانت في شهر رمضان.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): لم يبين في الروايات المذكورة عدد هذه الصلاة التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليالي.

                                                                                                                                                                                  (قلت): روى ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ثمان ركعات، ثم أوتر " .

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه جواز النافلة جماعة ، ولكن الأفضل فيها الانفراد، وفي التراويح اختلف العلماء فذهب الليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق إلى أن قيام التراويح مع الإمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل، وقال به قوم من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي ، فمن أصحاب أبي حنيفة عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران أحد مشايخ الطحاوي ، ومن أصحاب الشافعي إسماعيل بن يحيى المزني ومحمد بن عبد الله بن الحكم ، واحتجوا بحديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صمت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فلما كانت الليلة السابعة خرج فصلى بنا حتى مضى ثلث الليل، ثم لم يصل بنا السادسة، ثم خرج ليلة الخامسة فصلى بنا حتى مضى شطر الليل فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا ؟ فقال: إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة، ثم لم يصل بنا الرابعة حتى إذا كانت ليلة الثالثة خرج وخرج بأهله فصلى بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، فقلت: وما الفلاح ؟ قال: السحور " أخرجه الطحاوي وأخرجه الترمذي نحوه، غير أن في لفظه " من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة " ، وأخرجه النسائي وابن ماجه أيضا، ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب ومحمد بن سيرين وطاوس .

                                                                                                                                                                                  (قلت): هو مذهب أصحابنا الحنفية ، وقال صاحب الهداية: يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات، ثم قال: والسنة فيها الجماعة، لكن على وجه الكفاية، حتى لو امتنع أهل المسجد من إقامتها كانوا مسيئين، ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة ; لأن أفراد الصحابة يروى عنهم التخلف. (قلت): روى الطحاوي عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يصلي خلف الإمام في شهر [ ص: 178 ] رمضان ، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا في مصنفه " عن ابن عمر أنه كان لا يقوم مع الناس في شهر رمضان ، قال: وكان القاسم وسالم لا يقومان مع الناس " وذهب مالك والشافعي وربيعة إلى أن صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام، وهو قول إبراهيم والحسن البصري والأسود وعلقمة ، وقال أبو عمر : اختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان، فقال مالك والشافعي : صلاة المنفرد في بيته أفضل، وقال مالك : وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا: ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وقال مالك : وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في بيته، وإليه مال الطحاوي ، وروي ذلك عن ابن عمر وسالم والقاسم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وقال الترمذي : واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئا، والكلام في التراويح على أنواع.

                                                                                                                                                                                  الأول: أن العلماء اختلفوا فيها هل هي سنة أو تطوع مبتدأ ؟ فقال الإمام حميد الدين الضزيري رحمه الله: نفس التراويح سنة، وأما أداؤها بالجماعة فمستحب ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن نفس التراويح سنة لا يجوز تركها، وقال الصدر الشهيد : هو الصحيح، وفي جوامع الفقه: التراويح سنة مؤكدة والجماعة فيها واجبة، وفي روضة الحنفية : والجماعة فضيلة، وفي الذخيرة لنا عن أكثر المشايخ أن إقامتها بالجماعة سنة على الكفاية.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن عددها عشرون ركعة، وبه قال الشافعي وأحمد ونقله القاضي عن جمهور العلماء، وحكي أن الأسود بن يزيد كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبع، وعند مالك ستة وثلاثون ركعة غير الوتر، واحتج على ذلك بعمل أهل المدينة ، واحتج أصحابنا والشافعية والحنابلة بما رواه البيهقي بإسناد صحيح " عن السائب بن يزيد الصحابي قال: كانوا يقومون على عهد عمر رضي الله تعالى عنه بعشرين ركعة وعلى عهد عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما مثله "، وفي المغني عن علي أنه أمر رجلا أن يصلي بهم في رمضان بعشرين ركعة ، قال: وهذا كالإجماع.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال في الموطإ عن يزيد بن رومان قال: كان الناس في زمن عمر يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة (قلت): قال البيهقي : والثلاث هو الوتر، ويزيد لم يدرك عمر فيكون منقطعا، والجواب عما قاله مالك أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين ويصلون ركعتي الطواف ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة، فأراد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات فزادوا ست عشرة ركعة، وما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق وأولى أن يتبع.

                                                                                                                                                                                  الثالث: في وقتها وهو بعد العشاء وقبل الوتر عندنا، وهو قول عامة مشايخ بخارى ، والأصح أن وقتها بعد العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده، وفي المبسوط: المستحب فعلها إلى نصف الليل أو ثلثه كما في العشاء، وفي المحيط: لا يجوز قبل العشاء ويجوز بعد الوتر، ولم يحك فيه خلافا.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أن أكثر المشايخ على أن السنة فيها الختم فلا يترك لكسل القوم، وقيل: يقرأ مقدار ما يقرأ في المغرب تحقيقا للتخفيف، قال شمس الأئمة : هذا غير مستحسن وقيل: يقرأ من عشرين آية إلى ثلاثين آية كما أمر عمر بن الخطاب أحد الأئمة الثلاثة على ما رواه البيهقي بإسناده عن أبي عثمان النهدي قال: دعا عمر رضي الله تعالى عنه بثلاثة من القراء فاستقرأهم فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس بثلاثين آية في كل ركعة وأوسطهم بخمس وعشرين آية وأبطأهم بعشرين آية .

                                                                                                                                                                                  (ومن فوائد الحديث المذكور) جواز الاقتداء بمن لم ينو إمامته ، وهو مذهب الجمهور إلا رواية عن الشافعي ، وفيه إذا تعارضت مصلحة وخوف مفسدة أو مصلحتان اعتبر أهمهما ; لأنه - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - كان رأى الصلاة في المسجد لبيان الجواز أو أنه كان معتكفا، فلما عارضه خوف الافتراض عليهم تركه لعظم المفسدة التي تخاف من عجزهم وتركهم الفرض، وفيه أن الإمام أو كبير القوم إذا فعل شيئا خلاف ما يتوقعه أتباعه وكان له عذر فيه يذكره لهم تطييبا لقلوبهم وإصلاحا لذات البين لئلا يظنوا خلاف هذا وربما ظنوا ظن السوء، وفيه جواز الفرار من قدر الله إلى قدر الله، قاله المهلب ، وفيه ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزهادة في الدنيا والاكتفاء بما قل منها والشفقة على أمته والرأفة بهم، وفيه ترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صليت جماعة ، قاله ابن بطال ، وفيه أن قيام رمضان سنة بالجماعة ، وليس كما زعمه بعضهم أنه سنة عمر رضي الله عنه، وقال: أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل المساجد عن قيام رمضان، فهو واجب على الكفاية.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية