الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 104 ] قال ( وإذا زوج المكاتب أو العبد أو الذمي ابنته وهي صغيرة حرة مسلمة أو باع أو اشترى لها لم يجز ) معناه التصرف في مالها لأن الرق والكفر يقطعان الولاية ; ألا يرى أن المرقوق لا يملك إنكاح نفسه فكيف يملك إنكاح غيره ، وكذا الكافر لا ولاية له على المسلم حتى لا تقبل شهادته عليه ، ولأن هذه ولاية نظرية فلا بد من التفويض إلى القادر المشفق ليتحقق معنى النظر ، والرق يزيل القدرة والكفر يقطع الشفقة على المسلم فلا تفوض إليهما [ ص: 105 ] ( قال أبو يوسف ومحمد : والمرتد إذا قتل على ردته والحربي كذلك ) لأن الحربي أبعد من الذمي فأولى بسلب الولاية ، وأما المرتد فتصرفه في ماله وإن كان نافذا عندهما لكنه موقوف على ولده ومال ولده بالإجماع لأنها ولاية نظرية وذلك باتفاق الملة وهي مترددة ، ثم تستقر جهة الانقطاع إذا قتل على الردة فيبطل وبالإسلام يجعل كأنه لم يزل مسلما فيصح .

التالي السابق


( قال ) أي محمد في الجامع الصغير ( وإذا زوج المكاتب أو العبد أو الذمي ابنته وهي صغيرة حرة مسلمة أو باع ) أي أو باع واحد منهم ( أو اشترى لها ) أي الصغيرة الموصوفة المذكورة ( لم يجز ) أي لم يجز شيء من تصرفاتهم المذكورة . قال المصنف ( معناه ) أي معنى قول محمد : أو باع أو اشترى لها ( التصرف في مالها ) أي في مال الصغيرة المذكورة بالبيع أو الشراء ، وإنما احتاج إلى هذا التأويل لأن قوله أو اشترى لها يحتمل معنيين : أحدهما أن يشتري لها شيئا من مال نفسه ، والآخر أن يشتري لها بمالها . ولما كان الأول جائزا لا محالة كان المراد هاهنا هو الثاني .

وقال في تعليل المسألة ( لأن الرق والكفر يقطعان الولاية ) يعني أن التصرفات المذكورة من باب الولاية ، والرق في العبد والمكاتب ، والكفر في الذمي يقطعان الولاية ( ألا يرى أن المرقوق لا يملك إنكاح نفسه فكيف يملك إنكاح غيره ) يعني إذا لم يكن له ولاية على نفسه لم تكن له ولاية على غيره بالطريق الأولى ، لأن الولاية المتعدية فرع الولاية القاصرة ( وكذا الكافر لا ولاية له على المسلم ) لقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } ( حتى لا تقبل شهادته ) أي شهادة الكافر ( عليه ) أي على المسلم ( ولأن هذه ) أي هذه الولاية ( ولاية نظرية ) أي ولاية ثابتة نظرا للضعفاء والصغار لعجزهم ( فلا بد من التفويض ) أي تفويض هذه الولاية ( إلى القادر المشفق ليتحقق معنى النظر ) بالقدرة والشفعة ( والرق يزيل القدرة ) قال الله تعالى { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } ( والكفر يقطع الشفقة على المسلم ) كما لا يخفى ( فلا تفوض إليهما ) [ ص: 105 ] أي فلا تفوض هذه الولاية النظرية إلى العبد والكافر .

قال الشارح العيني : وفي بعض النسخ : إلى العاقد المشفق مكان القادر المشفق ، وجعل الشارح الكاكي هذه النسخة أصلا . وقال : وفي بعض النسخ إلى القادر مكان العاقد . أقول : وأنا لم أر نسخة إلى العاقد قط ولم أجد لها وجها هاهنا ، إذ لا يوجد حينئذ لقول المصنف والرق يزيل القدرة متعلق كما لا يخفى على الفطن ( قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : والمرتد إذا قتل على ردته والحربي كذلك ) أي لا يجوز تصرفهما على ولدهما المسلم وماله . قال الشراح : إنما خص قولهما بالذكر مع أن هذا حكم مجمع عليه لأن الشبهة إنما ترد على قولهما لأن تصرفات المرتد بالبيع والشراء ونحوهما نافذة ، وإن قتل على الردة عندهما بناء على الملك وقد تركا أصلهما في تصرفاته على ولده ومال ولده فإنها موقوفة بالإجماع .

أقول : قد أدرج في قولهما الحربي أيضا ، والعذر الذي ذكروه لا يجري فيه قطعا فلا يتم ( لأن الحربي ) وإن كان مستأمنا ( أبعد من الذمي ) لأن الذمي صار منا دارا وإن لم يصر منا دينا ، وقد تحقق منه ما هو خلف عن الإسلام وهو الجزية ، بخلاف الحربي فإنه لم يتحقق في حقه شيء من الأصل والخلف ( فأولى بسلب الولاية ) أي فالحربي أولى بسلب الولاية : يعني إذا سلبت ولاية الذمي كما عرفت فالحربي أولى بسلبها ( وأما المرتد فتصرفه في ماله وإن كان نافذا عندهما ) أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ( لكنه ) أي لكن تصرفه ( موقوف ) أي موقوف على إسلامه ; إن أسلم صح ، وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطل ( وعن ولده ومال ولده ) متعلق بما يرجع إليه ضمير لكنه وهو التصرف بمعنى الولاية : يعني لكن تصرفه : أي ولايته على ولده ومال ولده موقوف على إسلامه ( بالإجماع ) متعلق بقوله موقوف . أقول : لا يخفى على من له فطرة سليمة ووقوف على العربية ومسائل المرتد أن في كلام المصنف هاهنا تعقيدا قبيحا واحتياجا إلى بيان معناه بالوجه الذي شرحناه به .

وأنا أتعجب من الشراح كيف لم يتعرضوا له أصلا مع تقيدهم بكثير من الأمور الجزئية البينة في مواضع شتى . فحق العبارة هاهنا ما ذكره صاحب الكافي حيث قال : وأما المرتد فإن ولايته على أولاده وأموالهم موقوفة بالإجماع ( لأنها ) أي لأن ولاية الأب على ولده ومال ولده ( ولاية نظرية وذلك ) أي الولاية النظرية بتأويل المذكور ، أو بأن استعمال ذلك مشترك ( باتفاق الملة ) أي بسبب اتفاق الملة بين الأب والولد ( وهي ) أي الملة ( مترددة ) في حق المرتد لكونها معدومة في الحال لكنها مرجو الوجود لأن المرتد مجبور عليها فيجب التوقف ( ثم تستقر جهة الانقطاع إذا قتل على الردة فيبطل ) أي تصرفه ( وبالإسلام ) أي بالعود إلى الإسلام ( يجعل ) أي المرتد ( كأنه لم يزل مسلما فيصح ) أي تصرفه .

أقول : بقي في هذا المقام شيء ، وهو أن ما ذكره من قوله وإذا زوج المكاتب أو العبد أو الذمي ابنته إلى هاهنا ليس من مسائل الوكالة قط ، وقد وجد ذكره مرة في باب الأولياء والأكفاء من كتاب النكاح حيث قال فيه : ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون ، لأنه لا ولاية لهم على أنفسهم فأولى أن لا تثبت على غيرهم ، ولأن هذه ولاية نظرية ، ولا نظر في التفويض إلى هؤلاء ، ولا ولاية لكافر على مسلم لقوله تعالى [ ص: 106 ] { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } ولهذا لا تقبل شهادته عليه ولا يتوارثان انتهى . فذكره مرة أخرى سيما في كتاب الوكالة بعيد المناسبة .




الخدمات العلمية