الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب نهي الرجال عن المعصفر وما جاء في الأحمر

                                                                                                                                            560 - ( عن عبد الله بن عمرو قال : { رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال : إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها . } رواه أحمد ومسلم والنسائي ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( معصفرين ) المعصفر هو المصبوغ بالعصفر كما في كتاب اللغة وشروح الحديث . وقد استدل بهذا الحديث من قال بتحريم لبس الثوب المصبوغ بعصفر وهم العترة ، واستدلوا أيضا على ذلك بحديث ابن عمرو وحديث علي المذكورين بعد هذا وغيرهما وسيأتي بعض ذلك . وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك إلى الإباحة ، كذا قال ابن رسلان في شرح السنن قال : وقال جماعة من العلماء بالكراهة للتنزيه ، وحملوا النهي على هذا لما في الصحيحين [ ص: 110 ] من حديث ابن عمر ، قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة } زاد في رواية أبي داود والنسائي ، " وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها " وقال الخطابي : النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب ، وكأنه نظر إلى ما في الصحيحين من ذكر مطلق الصبغ بالصفرة ، فقصره على صبغ اللحية دون الثياب ، وجعل النهي متوجها إلى الثياب ، ولم يلتفت إلى تلك الزيادة المصرحة بأنه كان يصبغ ثيابه بالصفرة ، ويمكن الجمع بأن الصفرة التي كان يصبغ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم غير صفرة العصفرة المنهي عنه .

                                                                                                                                            ويؤيد ذلك ما سيأتي في باب لبس الأبيض والأسود من حديث ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالزعفران } وقد أجاب من لم يقل بالتحريم عن حديث ابن عمرو المذكور في الباب وحديثه الذي بعده بأنه لا يلزم من نهيه له نهي سائر الأمة .

                                                                                                                                            وكذلك أجاب عن حديث علي الآتي بأن ظاهر قوله : " نهاني " أن ذلك مختص به ، ولهذا ثبت في رواية عنه أنه قال : ولا أقول نهاكم ، وهذا الجواب ينبني على الخلاف المشهور بين أهل الأصول في حكمه صلى الله عليه وسلم على الواحد من الأمة هل يكون حكما على بقيتهم أو لا ؟ والحق الأول ، فيكون نهيه لعلي وعبد الله نهيا لجميع الأمة ، ولا يعارضه صبغه بالصفرة على تسليم أنها من العصفر لما تقرر في الأصول من أن فعله الخالي عن دليل التأسي الخاص لا يعارض قوله الخاص بأمته ، فالراجح تحريم الثياب المعصفرة ، والعصفر وإن كان يصبغ صبغا أحمر كما قال ابن القيم فلا معارضة بينه وبين ما ثبت في الصحيحين من { أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس حلة حمراء } كما يأتي ، لأن النهي في هذه الأحاديث يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة ، وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر ، وسيأتي ما حكاه الترمذي عن أهل الحديث بمعنى هذا .

                                                                                                                                            وقد قال البيهقي رادا لقول الشافعي : إنه لم يحك أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصفرة إلا ما قال علي : " نهاني ولا أقول نهاكم " إن الأحاديث تدل على أن النهي على العموم ، ثم ذكر أحاديث ما قال بعد ذلك : ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعي رحمه اللهلقال بها ، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي أنه قال : إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث .

                                                                                                                                            561 - ( وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : { أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية ، فالتفت إلي وعلي ريطة مضرجة بالعصفر ، فقال : ما هذه ؟ فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها فيه ، ثم أتيته من الغد ، فقال : يا عبد الله ما فعلت الريطة ؟ فأخبرته ، فقال : ألا كسوتها بعض أهلك ؟ } ، رواه [ ص: 111 ] أحمد وكذلك أبو داود وابن ماجه وزاد : " فإنه لا بأس بذلك للنساء " ) . الحديث في إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وفيه مقال مشهور ، ومن دونه ثقات .

                                                                                                                                            قوله : ( من ثنية ) هي الطريقة في الجبل ، وفي لفظ ابن ماجه : من ثنية أذاخر ، وأذاخر بفتح الهمزة والذال المعجمة المخففة وبعدها ألف ثم خاء معجمة على وزن أفاعل ، ثنية بين مكة والمدينة .

                                                                                                                                            قوله : ( ريطة ) بفتح الراء المهملة وسكون المثناة تحت ثم طاء مهملة ويقال رائطة . قال المنذري : جاءت الرواية بهما وهي ملاءة منسوجة بنسج واحد ، وقيل : كل ثوب رقيق لين ، والجمع ريط ورياط .

                                                                                                                                            قوله : ( مضرجة ) بفتح الراء المشددة أي ملطخة .

                                                                                                                                            قوله : ( يسجرون ) أي يوقدون .

                                                                                                                                            قوله : ( بعض أهلك ) يعني زوجته أو بعض نساء محارمه وأقاربه ، وفيه دليل على جواز لبس المعصفر للنساء ، وفيه الإنكار على إحراق الثوب المنتفع به لبعض الناس دون بعض لأنه من إضاعة المال المنهي عنها ، لكنه يعارض هذا ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أيضا قال : { رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين ، فقال : أمك أمرتك بهذا ؟ قال : قلت : أغسلهما يا رسول الله ، قال : بل أحرقهما } وقد جمع بعضهم الروايتين بأنه صلى الله عليه وسلم أمر أولا بإحراقهما ندبا ، ثم لما أحرقهما قال له النبي صلى الله عليه وسلم : { لو كسوتهما بعض أهلك ؟ } إعلاما له بأن هذا كان كافيا لو فعله ، وأن الأمر للندب ، ولا يخفى ما في هذا من التكلف الذي عنه مندوحة ، لأن القضية لم تكن واحدة حتى يجمع بين الروايتين بمثل هذا ، بل هما قضيتان مختلفتان وغايته أنه صلى الله عليه وسلم في إحدى القضيتين غلظ عليه وعاقبه فأمره بإحراقهما ، ولعل هذه المرة التي أمره فيها بالإحراق كانت بعد تلك المرة التي أخبره فيها بأن ذلك غير واجب ، وهذا وإن كان بعيدا من جهة أن صاحب القصة يبعد أن يقع منه اللبس للمعصفر مرة أخرى بعد أن سمع فيه ما سمع المرة الأولى ، ولكنه دون البعد الذي في الجمع الأول لأن احتمال النسيان كائن ، وكذا احتمال عروض شبهة توجب الظن بعدم التحريم ، ولا سيما وقد وقعت منه صلى الله عليه وسلم المعاتبة على الإحراق . قال القاضي عياض : أمره بإحراقهما من باب التغليظ والعقوبة انتهى . وفيه حجة على جواز المعاقبة بالمال ، والحديث يدل على المنع من لبس الثياب المصبوغة بالعصفر ، وقد تقدم الكلام في ذلك .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية