الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لم يلد ولم يولد

جملة لم يلد خبر ثان عن اسم الجلالة من قوله : الله الصمد أو حال من المبتدأ أو بدل اشتمال من جملة الله الصمد لأن من يصمد إليه لا يكون من حاله أن يلد ; لأن طلب الولد لقصد الاستعانة به في إقامة شئون الوالد وتدارك عجزه ، ولذلك استدل على إبطال قولهم اتخذ الله ولدا بإثبات أنه الغني في قوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض فبعد أن أبطلت الآية الأولى من هذه السورة تعدد الإله بالأصالة والاستقلال ، أبطلت هذه الآية تعدد الإله بطريق تولد إله عن إله ; لأن المتولد مساو لما تولد عنه .

والتعدد بالتولد مساو في الاستحالة لتعدد الإله بالأصالة لتساوي ما يلزم على التعدد في كليهما من فساد الأكوان المشار إليه بقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( وهو برهان التمانع ) ، ولأنه لو تولد عن الله موجود آخر للزم انفصال جزء عن الله تعالى وذلك مناف للأحدية كما علمت آنفا ، وبطل اعتقاد المشركين من العرب أن الملائكة بنات الله تعالى فعبدوا الملائكة لذلك ; لأن النبوة للإله تقتضي إلهية الابن قال تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون .

وجملة ولم يولد عطف على جملة لم يلد أي : ولم يلده غيره ، وهي بمنزلة الاحتراس سدا لتجويز أن يكون له والد ، فأردف نفي الولد بنفي الوالد ، وإنما قدم نفي الولد لأنه أهم ، إذ قد نسب أهل الضلالة الولد إلى الله تعالى ولم ينسبوا [ ص: 619 ] إلى الله والدا . وفيه الإيماء إلى أن من يكون مولودا مثل عيسى لا يكون إلها ; لأنه لو كان الإله مولودا لكان وجوده مسبوقا بعدم لا محالة وذلك محال ; لأنه لو كان مسبوقا بعدم لكان مفتقرا إلى من يخصصه بالوجود بعد العدم ، فحصل من مجموع جملة لم يلد ولم يولد إبطال أن يكون الله والدا لمولود ، أو مولودا من والد بالصراحة . وبطلت إلهية كل مولود بطريق الكناية فبطلت العقائد المبنية على تولد الإله مثل عقيدة ( زرادشت ) الثانوية القائلة بوجود إلهين : إله الخير وهو الأصل ، وإله الشر وهو متولد عن إله الخير . لأن إله الخير وهو المسمى عندهم ( يزدان ) فكر فكرة سوء ، فتولد منه إله الشر المسمى عندهم ( أهرمن ) وقد أشار إلى مذهبهم أبو العلاء بقوله :


قال أناس باطل زعمهم فراقبوا الله ولا تزعمن     فكر ( يزدان ) على غرة
فصيغ من تفكيره ( أهرمن )



وبطلت عقيدة النصارى بإلهية عيسى - عليه السلام - بتوهمهم أنه ابن الله وأن ابن الله لا يكون إلا إلها بأن الإله يستحيل أن يكون له ولد ، فليس عيسى بابن الله ، وبأن الإله يستحيل أن يكون مولودا بعد عدم ، فالمولود المتفق على أنه مولود يستحيل أن يكون إلها ، فبطل أن يكون عيسى إلها .

فلما أبطلت الجملة الاسمية الأولى إلهية إله غير الله بالأصالة ، وأبطلت الجملة الثانية إلهية غير الله بالاستحقاق ، أبطلت هذه الجملة إلهية غير الله بالفرعية والتولد بطريق الكناية .

وإنما نفي أن يكون الله والدا وأن يكون مولودا في الزمن الماضي ; لأن عقيدة التولد ادعت وقوع ذلك في زمن مضى ، ولم يدع أحد أن الله سيتخذ ولدا في المستقبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية