الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( كتاب المأذون )

                                                                                        تأخير كتاب المأذون عقيب كتاب الحجر ظاهر ; لأن الإذن يقتضي سبق الحجر ولما ترتب وجودا ترتب أيضا ذكرا للتناسب ، والكلام هنا من وجوه الأول في معناه لغة الثاني في دليل المشروعية الثالث في سببه الرابع في ركنه الخامس في شرطه السادس في تفسيره السابع في حكمه أما معناه لغة قال شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه الإذن هو الإطلاق لغة ; لأنه ضد الحجر وهو المنع فكان إطلاقا عن شيء إلى شيء كان . ا هـ .

                                                                                        وفي النهاية أما اللغة فالإذن في الشيء رفع المانع لمن هو محجور عنه وإعلام بإطلاقه فيما حجر عليه من أذن له في الشيء إذنا وأبعد الإمام الزيلعي حيث قال : والإذن في اللغة الإعلام ومنه الأذان وهو الإعلام ; لأن الإذن من أذن في كذا إذا أباحه وأذان من أذن بكذا إذا أعلم وبينهما فرق [ ص: 97 ] وأما دليل المشروعية فهو قوله تعالى { ولتبتغوا من فضله } وإذن الصبي ، والعبد في التجارة ابتغاء من فضل الله وأما سبب المشروعية فهو الحاجة ; لأن الإنسان قد لا يتفرغ لذلك بنفسه لكثرة اشتغاله فيحتاج أن يستعين بالعبد ، والصغير وأما ركنه فقول المولى لعبده أذنت لك في هذا وأما شرائطه ففي المحيط شرائط جوازه فولاية الإذن على المأذون حجرا وإطلاقا منعا وإسقاطا وكون المأذون عاقلا مميزا عالما عارفا بما يؤذن له وأن يعلم العبد بالإذن وفي السغناقي دخل في قولنا من له ولاية الإذن في التجارة المكاتب ، والمأذون ، والمضارب ، والشريك مفاوضة ، والأب ، والجد ، والقاضي ، والولي ا هـ .

                                                                                        وأما حكمه قال في غاية البيان فملك المأذون كل ما كان من قبيل التجارة وتوابعها وعدم ملكه ما لم يكن كذلك وعزاه إلى التحفة وأبعد صاحب النهاية والإمام الزيلعي حيث قالا وأما حكمه فهو تفسيره الشرعي ; لأن حكم الشيء ما يثبت به ولا يذهب على ذي مسكة أن ما يثبت بالشيء ويصير أثرا مرتبا عليه لا يصلح أن يكون تفسيرا لذلك الشيء محمولا عليه بالمواطأة وأما تفسيره شرعا فهو ما أشار إليه قال رحمه الله ( هو فك الحجر وإسقاط الحق ) ; لأن العبد أهلا للتصرف بعد الرق ; لأن ركن التصرف كلام معتبر شرعا من مميز ومحل التصرف ذمة صالحة لالتزام الحقوق وهما لا يقومان بالرق ; لأنهما من كرامات البشر إلا أنه حجر عليه عن التصرف لحق المولى لئلا يبطل حقه بتعلق الدين برقبته لضعف ذمة الرقيق ، فإذا أذن له المولى فقد أسقط حقه فكان متصرفا بأهليته الأصلية ولهذا لا يرجع على المولى بما لحقه من العهدة أطلق في فك الحجر فشمل الكل ، والبعض .

                                                                                        وقال في المبسوط : وإذا أذن أحد الشريكين لعبده في التجارة جاز في نصيبه خاصة وليس للشريك الآخر أن يبطل الإذن وما لحقه من دين التجارة فهو على نصيبه خاصة ولو لحقه دين التجارة وفي يده مال التجارة قضى من ذلك دينه ، والباقي بينهما نصفين ; لأنه حصل من كسب العبد ولو وهب له أو اكتسب قبل الإذن أو تصدق عليه أو بعد الإذن فهو بينهما نصفين ولو اختلفا في الكسب الذي في يده فقال الآذن والعبد : إنه استفاده بالتجارة وقال الساكت إنه استفاده بالهبة فالقول قول الآذن ، والعبد ويصرفه في دينه استحسانا ; لأن العبد هو الكاسب وهو أعلم بحال كسبه ولو استهلك مالا كان عليهما إذا ثبت بالبينة أو بالمعاينة ويتعلق بجميع رقبته ولو أقر باستهلاك ما كان على الآذن خاصة ولو أذن رجل بنصف عبده كان مأذونا في كله ; لأن الإذن لا يتجزأ ولو أذن أحد الشريكين ثم اشترى نصيب الآخر فتصرف وهو لا يعلم فالدين كله في النصف الأول ولو علم بتصرفه ففي جميع الرقبة ولو أذن لعبد لا يملكه ثم ملكه ، فإنه لا يصير مأذونا ولو أخبر شريكه أهل السوق أنه لا يرضى بإذن شريكه ثم رأى العبد يتصرف لم يصر مأذونا استحسانا قال أحدهما لشريكه ائذن لنصيبك فأذن له فهو مأذون كله ; لأن الإذن مما لا يتجزأ فصار كأنه قال لصاحبه ائذن لجميع العبد قال في الكفاية إسقاط الحق وهو حق المولى في مالية الكسب ، والرقبة ، فإنه ممتنع تعلق حق الغير بهما صونا لحق المولى وبالإذن أسقط حقه .

                                                                                        قال صاحب الإصلاح ، والإيضاح المراد بالحق هاهنا حق المنع فلا ينافي كونه حق المولى بل يقتضيه ; لأن حق المنع التعلق بالعبد وهو حق المولى لا حق غيره ، فإن معنى حق المنع هو منع التصرف على أن تكون الإضافة بيانية ومعنى حق المولى هو حق للمولى على أن تكون الإضافة بمعنى اللام وبيان الحق الذي هو منع العبد عن التصرف إنما يكون للمولى لا لغيره فكان حقا له قطعا وأما ثانيا فلأنه إن أراد بقوله ; لأن حق المولى لا يسقط بالإذن أنه لا يسقط به أصلا ممنوع ، وإن أراد بذلك أنه لا يسقط به في الجملة كما إذا لم يحط الدين بما في يده ورقبته فمسلم ذلك إلا أنه لا يجدي نفعا ; لأنه ليس المراد بالإسقاط إسقاطا بالكلية بل المراد إسقاطه في الجملة وأما اختصاص حق المولى بإذن العبد فلا يضر ; لأن المقصود بالذات في كتاب المأذون بيان إذن العبد وأما بيان إذن الصبي فعلى سبيل التبعية ويجوز أن يكون مدار ما ذكر في تفسير المأذون في الشرع على ما هو المقصود بالذات في كتاب المأذون وهو إذن العبد ولقائل أن يقول إن أريد إسقاط الحق بجملته وفك الحجر برقبته فهو ممنوع ولو كان كذلك تصح هبته وإقراضه ونحوهما من التبرعات وليس كذلك قطعا .

                                                                                        وإن أراد أنه إسقاط وفك في الجملة فهو مسلم لكن لا يثبت به المدعى إذ لا يلزم منه إسقاط وفك في جميع التصرفات حتى يكون مأذونا في جميعها قيل المراد إسقاط وفك في بعض معين [ ص: 98 ] من التصرفات فلا يرد النقض بالتبرعات فلو قال فك الحجر ومنع إسقاط في نوع لكان أولى فتأمل قال رحمه الله ( فلا يتوقف ولا يتخصص ) يعني لا يتوقف بزمان ولا مكان ولا يتخصص بنوع من أنواع التجارة عندنا لما ذكرنا من تفسيره وقال الإمام الشافعي وزفر هو عبارة عن توكيل ، وإنابة فينفذ عندهما ويتخصص وعندنا يتصرف بأهلية نفسه وحق المولى قد أسقطه ، والساقط لا يعود كما إذا رضي المستأجر أن يؤجر عبده من شخص بعينه دون غيره ، والإسقاط لا يقبل التقييد دون غيره كالطلاق ، والعتاق ولو أسلم البائع المبيع إلى المشتري قبل نقد الثمن على أن يتصرف فيه نوعا من التصرف دون غيره ، فإنه لا يعتبر تقييده ; لأنه إسقاط لحقه فلا يقبل التقييد بخلاف إذن القاضي ، فإنه بمنزلة الوكيل ذكره قاضي خان في فتاواه كذا ذكره الشارح وفي المحيط يجوز الإذن للصبي العاقل في التجارة من الأب ، والقاضي ولا يجوز تخصيصه بنوع دون نوع كالعبد لا يقال لو كان إسقاطا لما ملكه بهبة ; لأنا نقول ليس بإسقاط في حق ما لم يوجد فيكون النهي امتناعا فيما لم يوجد لا يقال هو ليس بأهل لحكم التصرف وهو الملك فكيف يكون أهلا لنفس التصرف ، والسبب غير مشروع لذاته بل لحكمة ، فإذا لم يترتب عليه حكمه لا يكون مشروعا كطلاق الصبي ; لأنا نقول حكمه ملك اليد وهو أهل لذلك كالمكاتب قال في العناية .

                                                                                        وصحح المصنف كونه إسقاطا عندنا بقوله ولهذا لا يقبل التأقيت ثم قال : فإن قيل قوله فك الحجر وإسقاط الحق مذكور في حيز التعريف فكيف جاز الاستدلال عليه وأجيب بوجهين أحدهما أن حكمه الشرعي هو تعريفه فكان الاستدلال عليه ليس باستدلال ، وإنما هو الصحيح للنقل بما يدل على أنه عندنا تعرف بذلك كما أشرنا إليه . الثاني : أن من حيث كونه حكما لا من حيث كونه تعريفا قال في المحيط فيبيع من المولى ويشتري منه ويطالبه بإيفاء الثمن على وجه لو امتنع يحبس ولو قال أذنت لك في الخياطة أو الصباغة أو في عمل آخر فهو مأذون في جميع الأوقات ما لم يحجر عليه ولو قال اتجر في البر ولا تتجر في البحر لا يصح نهيه ولقائل أن يقول : إن أريد بقوله فلا تخصيص بنوع دون نوع أنه لا يتخصص بذلك أطلقه ولم يقيده بنوع فهو يسلم لكن لا يجدي طائلا ; لأن ما نحن فيه صورة التقيد ، وإن أريد أنه لا يتخصص بنوع دون نوع ، وإن قيده بذلك فهو ممنوع كيف وهذا يتوقف تمامه على أول المسألة هو أن يكون الإذن في نوع من التجارة إذنا في جميعها فيؤدي إلى المصادرة على المطلوب قال صاحب العناية ونوقض بالإذن في النكاح رعاية الحجر وإسقاط الحق .

                                                                                        وإذا أذن له أن يتزوج فلانة ليس له أن يتزوج غيرها وأجيب أن النكاح تصرف مملوك للمولى ; لأنه لا يجوز إلا بولي ، والرق أخرج العبد من أهل الولاية فلأن يجيزه المولى على النكاح مخصص بخلاف البيع ، والإذن على نوعين عام وخاص فالعام أن يقول لعبده أذنت لك في التجارة أو قال اتجر ولو قال أد إلي ألفا وأنت حر يصير مأذونا في التجارة وكذا لو قال اكتسب وأد ذلك وقوله أد ألفا وأنت حر بمنزلة ما إذا قال إن أديت ألفا فأنت حر ; لأن جواب الأمر بالواو كالفاء بخلاف ما إذا قال أد ألفا أنت حر ولو أذن لعبده ولم يعلم العبد بالإذن ولا أحد من الناس فتصرف ثم علم لم يجز لعدم علمه ولو قال لقوم بايعوه فبايعوه ولم يعلم العبد بذلك فهو مأذون وذكر في الزيادات لو قال لرجل بع عبدك هذا من ابني الصغير فباعه منه وقبل الابن إن علم بأمر الأب جاز ، وإن لم يعلم لم يجز قبل الإذن على الروايتين ، والفرق بين الروايتين أن إذن الصبي توكيل وليس بإذن في التجارة ; لأنه فوض إليه عقد واحد وبتفويض عقد واحد لا يثبت الإذن وفي مسألة المأذون إذن لا توكيل ; لأنه فوض إليه عقودا متكررة فيجوز أن يثبت الإذن ضمنا للأمر بالمبايعة في عقود متكررة بدون علمه ، وإن لم يثبت مقصودا بخلاف العقد الواحد .

                                                                                        ولو لم يبايعه أحد منهم وبايعه من لم يأمره المولى لم يصر مأذونا ; لأن الإذن إنما يثبت في ضمن أمره بالمبايعة ولو دفع له حمارا ليكريه ويبيع عليه صار مأذونا ، والإذن يصح تعليقه بلا شرط وإضافته إلى الزمان كالطلاق ، والحجر ، والعزل لا يصح تعليقهما ولا إضافتهما كالنكاح وأما الإذن الخاص فلا يكون به مأذونا كما لو أمره بشراء ثوب للكسوة أو لحم للأكل ; لأن هذا استخدام فلا بد من فاصل بين الاستخدام ، والتجارة وهو أن الأمر يعقد مرة بعد مرة استخدام ، والأمر بعقود متعددة يعد تجارة ; لأنه يدل على أنه للربح ولما بين المؤلف الإذن الصريح شرع في الإذن دلالة ا هـ .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية