الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال البقاعي : ولما كان المال عديل الروح ، ونهى عن إتلافه بالباطل ، نهى عن إتلاف النفس لكون أكثر إتلافهم لهما بالغارات لنهب الأموال ، وما كان بسببها أو تسببها ، على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل ، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل ، فقال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إلخ ، أقول : ظاهر هذه الجملة وحدها أن النهي إنما هو عن قتل الإنسان لنفسه وهو الانتحار ، والمتبادر منها في هذا الأسلوب أن المراد : لا يقتل بعضكم بعضا ، وهو الأقوى ، واختير هذا التعبير للإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها كما تقدم في نكتة التعبير عن أكل بعضهم مال بعض بقوله : لا تأكلوا أموالكم وجمع بعضهم في النهي عن القتل بين الأمرين فقال : أي لا تقتلوها حقيقة بالانتحار ولا مجازا بقتل بعضكم لبعض ، ولم يقولوا مثل هذا في النهي عن أكل أموال أنفسهم بالباطل ، على أن المعنى يكون في نفسه صحيحا فإن النفقات بالباطل محرمة شرعا ; لأنها من إضاعة المال في غير منفعة حقيقية ، وقد تقدم ما يؤيد ذلك في تفسير قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ( 4 : 5 ) ، [ راجع ص 39 ط الهيئة العامة للكتاب ] ، وكل المحرمات في الإسلام ترجع إلى الإخلال بحفظ الأصول الكلية الواجب حفظها بالإجماع ، وهي : الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، [ ص: 37 ] والمال ، والنسب ، وعللوا التعبير عن قتل الإنسان لغيره بقتله لنفسه بأنه لما كان يفضي إلى قتله قصاصا أو ثأرا كان كأنه قتل لنفسه ، وقالوا مثل هذا القول في تفسير قوله تعالى في خطاب بني إسرائيل : وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ( 2 : 84 ، 85 ) ، الآية ، حتى إنهم قالوا في قوله تعالى لبني إسرائيل : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ( 2 : 54 ) ، إن المعنى ليقتل كل منكم نفسه بالبخع والانتحار أو أمروا أن يقتل بعضهم بعضا ، وقال بعضهم : إن المراد بالقتل هنالك قطع الشهوات ، كما قيل : من لم يعذب نفسه لم ينعمها ، ومن لم يقتلها لم يحيها ، وقيل : إن المعنى هنا : لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من يغلب على ظنكم أنهم يقتلونكم ، ومن نظر في مجموع الآيات الواردة في هذا المعنى وراعى دلالة النظم والأسلوب يجزم بأن المراد بقتل الناس أنفسهم هو قتل بعضهم لبعض ، وأن النكتة في التعبير هي ما تقدم بيانه من وحدة الأمة حتى كأن كل فرد من أفرادها هو عين الآخر ، وجنايته عليه جناية على نفسه من جهة ، وجناية على جميع الأفراد من جهة أخرى ، بل علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية بقوله عز وجل : من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ( 5 : 32 ) ، وإذا كان يرشدنا بأنه يجب علينا أن نحترم نفوس الناس بعدها كنفوسنا فاحترامنا لنفوسنا يجب أن يكون أولى ، فلا يباح بحال من الأحوال أن يقتل أحد نفسه كأن يبخعها ليستريح من الغم وشقاء الحياة ، فمهما اشتدت المصائب على المؤمن فإنه يصبر ويحتسب ، ولا ينقطع رجاؤه من الفرج الإلهي ; ولذلك نرى بخع النفس ( الانتحار ) يكثر حيث يقل الإيمان ، ويفشو الكفر والإلحاد ، ومن فوائد الإيمان مدافعة المصائب والأكدار ، فالمؤمن لا يتألم من بؤس الحياة كما يتألم الكافر ، فليس من شأنه أن يبخع نفسه حتى ينهى عن ذلك نهيا صريحا .

                          إن الله كان بكم رحيما أي : إنه كان بنهيه إياكم عن أكل أموالكم بالباطل ، وعن قتل أنفسكم رحيما بكم ; لأن في ذلك حفظ دمائكم وأموالكم التي هي قوام مصالحكم ومنافعكم فيجب أن تتراحموا فيما بينكم ويكون كل منكم عونا للآخرين على حفظ النفس ومدافعة رزايا الدهر .

                          ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ، قال الأستاذ الإمام : ذهب بعض المفسرين إلى أن المشار إليه في قوله : ذلك كل ما تقدم النهي عنه من أول السورة إلى الآية السابقة ، وقال ابن جرير : إن المشار إليه هو ما نهى عنه من قوله تعالى : [ ص: 38 ] يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ( 4 : 19 ) ، إلى هنا ، وذلك أن المنهيات التي قبل تلك الآية قد اقترنت بالوعيد عليها على حسب سنة القرآن ولكن هذه المنهيات الأخيرة لم يوعد عليها بشيء وإن وصفت بالقبح الذي يترتب عليه الوعيد ـ وهي النهي عن إرث النساء كرها ، وعن عضلهن لأخذ شيء من مالهن ، وعن نكاح ما نكح الآباء في الجاهلية ، وعن أكل أموال الناس بالباطل ، وعن القتل ـ وقال بعضهم : إن المشار إليه في هذه الآية هو القتل فقط ، وقد قصر كل التقصير ، وأكثر المفسرين على أن المراد بذلك ما في الآية الأخيرة من النهي عن أكل أموال الناس بالباطل وعن القتل ، وهذا هو المعقول المقبول فإن ما قبلها من المنهيات التي لم تقترن بالوعيد قد اقترنت بالوصف الدال عليه .

                          ( قال ) والعدوان : هو التعدي على الحق فكأنه قال بغير حق ، وهو يتعلق بالقصد ، فمعناه أن يتعمد الفاعل إتيان الفعل وهو يعلم أنه قد تعدى الحق ، وجاوزه إلى الباطل ، والظلم يتعلق بالفعل نفسه بأن كان المتعدي لم يتحر ويجتهد في استبانة ما يحل له منه فيفعل ما لا يحل ، والوعيد مقرون بالأمرين معا ، وهما أن يقصد الفاعل العدوان ، وأن يكون فعله ظلما في الواقع ، ونفس الأمر ، فإذا وجد أحدهما دون الآخر لا يستحق هذا الوعيد الشديد ، مثال تحقق العدوان دون الظلم أن يقتل الإنسان رجلا يقصد الاعتداء عليه ، ثم يظهر له أنه كان راصدا له يريد قتله ، ولو لم يسبقه لقتله ، أو أنه كان قتل من له ولاية دمه كأصله أو فرعه ، فهاهنا لم يتحقق الظلم ، وأما العدوان فواقع لا محالة ، ومثال تحقق الظلم فقط أن يسلم امرؤ مال آخر ظانا أنه ماله الذي كان سرقه أو اغتصبه منه ، ثم يتبين له أن المال ليس ماله ، وأنه لم يكن هو الذي أخذ ماله ، وأن يقتل رجلا رآه هاجما عليه فظن أنه صائل يريد قتله ثم يتبين له خطأ ظنه ، فهاهنا تحقق الظلم ولكن لم يتحقق العدوان ، أقول : وقد يعاقب الإنسان على بعض الصور التي لا تجمع بين العدوان والظلم معا لتقصيره في استبانة الحق ، ولكن عقاب من يجمع بينهما ، وإصلاءه النار إدخاله فيها وإحراقه بها ، وأصله من الصلي وهو القرب من النار للاستدفاء ، قال الراجز :

                          يقعي جلوس البدوي المصطلي

                          ، أي : المستدفئ ، وتتمة هذا البحث اللغوي في تفسير الآية التاسعة من هذه السورة [ ص 284 ج 4 ط الهيئة العامة للكتاب ] .

                          وكان ذلك على الله يسيرا أي : أن ذلك الوعيد البعيد شأوه ، الشديد وقعه ، يسير على الله غير عسير ، وقريب من العادين الظالمين غير بعيد ؛ لأن سنته قد مضت بأن يكون العدوان والظلم مدنسا للنفوس مدسيا لها بحيث يهبط بها في الآخرة ، ويرديها في الهاوية ، وقال الأستاذ الإمام : إن معنى كونه يسيرا على الله تعالى هو أن حلمه في الدنيا على المعتدين الظالمين وعدم معاجلتهم بالعقوبة لا يقتضي أن ينجو من عقابه في الآخرة ، وهذا الذي قاله لا ينافي ما قلناه ، بل هو تنبيه إلى موضع العبرة ، أي : فلا يغترن الظالمون بعزتهم وقوتهم على من يظلمونهم [ ص: 39 ] ولا يقيسن الآخرة على الدنيا فيكونوا كأولئك المشركين الذين قالوا فيما حكى الله عنهم : نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ( 34 : 35 ) ، بل يجب ألا يأمنوا تقلب الدنيا وغيرها ولا ينخدعوا بقول الشاعر :


                          لقد أحسن الله فيما مضى     كذلك يحسن فيما بقي

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية