الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 172 ] القسم الثاني : الآحاد

                        وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم سواء كان لا يفيده أصلا ، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه ، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد . وهذا قول الجمهور .

                        وقال أحمد بن حنبل : إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم ، وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث المحاسبي . قال : وبه نقول .

                        وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس ، واختاره ، وأطال في تقريره ، ونقل الشيخ في التبصرة عن بعض أهل الحديث أن منها ما يوجب العلم ، كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر وما أشبهه ، وحكى صاحب المصادر عن أبي بكر القفال أنه يوجب العلم الظاهر .

                        وقيل في تعريفه : هو ما لم ينته بنفسه إلى التواتر ، سواء كثر رواته ، أو قلوا ، وهذا [ ص: 173 ] كالأول في نفي الواسطة بين التواتر والآحاد .

                        وقيل في تعريفه : هو ما يفيد الظن ، واعترض عليه بما لم يفد الظن من الأخبار .

                        ورد : بأن الخبر الذي لا يفيد الظن ، لا يراد دخوله في التعريف ، إذ لا يثبت به حكم ، والمراد تعريف ما يثبت به الحكم .

                        وأجيب عن هذا الرد : بأن الحديث الضعيف الذي لم ينته تضعيفه إلى حد يكون به باطلا موضوعا يثبت به الحكم ، مع كونه لا يفيد الظن .

                        ويرد هذا الجواب : بأن الضعيف الذي يبلغ ضعفه إلى حد لا يحصل معه الظن لا يثبت به الحكم ، ولا يجوز الاحتجاج به في إثبات شرع عام ، وإنما يثبت الحكم بالصحيح ، والحسن لذاته أو لغيره ، لحصول الظن بصدق ذلك ، وثبوته عن الشارع .

                        وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد ، وأنه وقع التعبد به ، وقال القاساني والرافضة وابن داود : لا يجب العمل به ، وحكاه الماوردي عن الأصم وابن علية وقال : إنهما قالا لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات ، ويقبل في غيره من أدلة الشرع .

                        [ ص: 174 ] وحكى الجويني في شرح الرسالة عن هشام والنظام أنه لا يقبل خبر الواحد إلا بعد قرينة تنضم إليه ، وهو علم الضرورة ، بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق ، وقال : وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي ، قال بعد حكاية هذا عنه : فإن تاب ، فالله يرحمه ، وإلا فهو مسألة التكفير ; لأنه إجماع فمن أنكره يكفر .

                        قال ابن السمعاني : واختلفوا - يعني القائلين بعدم وجوب العمل بخبر الواحد - في المانع من القبول ، فقيل : منع منه العقل ، وينسب إلى ابن علية والأصم .

                        وقال القاساني من أهل الظاهر ، والشيعة : منع منه الشرع ، فقالوا : إنه لا يفيد إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا .

                        ويجاب عن هذا : بأنه عام مخصص ، لما ثبت في الشريعة من العلم بأخبار الآحاد .

                        ثم اختلف الجمهور في طريق إثباته ، فالأكثر منهم قالوا : يجب بدليل السمع .

                        وقال أحمد بن حنبل ، والقفال وابن شريح وأبو الحسين البصري من المعتزلة وأبو جعفر الطوسي من الإمامية والصيرفي من الشافعية : إن الدليل العقلي دل على وجوب العمل ; لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر الوارد عن الواحد .

                        وأما دليل السمع : فقد استدلوا من الكتاب بمثل قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ وبمثل قوله تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة .

                        ومن السنة بمثل قصة أهل قباء ، لما أتاهم واحد فأخبرهم أن القبلة قد تحولت فتحولوا ، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم ينكر عليهم .

                        وبمثل بعثه صلى الله عليه وآله وسلم لعماله واحدا بعد واحد ، وكذلك بعثه [ ص: 175 ] بالفرد من الرسل يدعو الناس إلى الإسلام .

                        ومن الإجماع بإجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد ، وشاع ذلك وذاع ولم ينكره أحد ، ولو أنكره منكر لنقل إلينا ، وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم ، كالقول الصريح .

                        قال ابن دقيق العيد : ومن تتبع أخبار النبي والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعا انتهى .

                        وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به ، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد ، وجد ذلك في غاية الكثرة ، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط ، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال ، فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبرا واحدا من ريبة في الصحة ، أو تهمة للراوي ، أو وجود معارض راجح ، أو نحو ذلك .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية