الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 57 ] قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت..

الآية (180)فقوله تعالى: كتب عليكم يدل على وجوب الوصية ، وقوله: بالمعروف أي بالعدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير، كقوله تعالى: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وعاشروهن بالمعروف .

وقوله: حقا على المتقين يؤكد الوجوب ...

ووردت أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب الوصية، فمنها ما رواه نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "ما حق امرئ مسلم له مال يوصي فيه، يمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة" .

ثم اختلف الناس في وجوبها أولا:

فمنهم من قال: كان ذلك ندبا.

والصحيح أن ذلك كان واجبا.

وقال ابن عباس في قوله: كتب عليكم .. الآية. إنه منسوخ بقوله: للرجال نصيب الآية، ورووا بطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث" . [ ص: 58 ] فإن قيل: كيف جوزتم نسخ القرآن بأخبار الآحاد؟ ..

فأجابوا: بأن ذلك لا يمتنع من طريق النظر في الأصول، فإن بقاء الحكم مظنون فيجوز أن ينسخ بمثله، وشرح ذلك في الأصول.

وقد قيل: إن الإجماع انعقد على تلقي هذا الخبر بالقبول، ومثل ذلك يجوز أن ينسخ به الكتاب.

وليس في إيجاب الميراث للورثة ما ينافي جواز الوصية لهم، لإمكان أن يجتمع الحقان للورثة بالطريقين، وإنما ينسخ الشيء ما ينافيه، والله تعالى لما جعل الميراث بعد الوصية فمن الذي يمنع من أن يعطى الوارث قسطه من الوصية، ثم يعطى الميراث بعدها؟.

وقال الشافعي في كتاب الرسالة: يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية، ويحتمل أن تكون ثابتة معها، ثم قال: فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجاهد -وهو منقطع- أنه قال: "لا وصية لوارث" ، استدللنا بما روي عنه عليه السلام في ذلك أن المواريث ناسخة للوصايا بالوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع.

أما قول الشافعي: يحتمل أن تكون المواريث ناسخة، فوجه الاحتمال أن الوصية إنما كانت واجبة لتعطي كل ذي حق حقه، من ماله بعد موته، فكان إثبات الحق للوارث في ماله لمكان القرابة، ثم كان يميل الموصي بقلبه إلى بعض الورثة ويقصر في حق بعض الورثة، فعلم الله تعالى ذلك منهم، فأعطى كل ذي حق حقه، ولهذا قال النبي عليه السلام: "إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب" الحديث.. إلى أن [ ص: 59 ] قال: "ألا لا وصية لوارث" ، فكان الميراث قائما مقام الوصية فلم يجز الجمع بينهما..

والذي ذكره الشافعي رحمه الله من أن ناسخه الخبر يعترض عليه من وجهين:

أحدهما: أنه منقطع وهو لا يقبل المراسيل.

الثاني: أنه لو كان متصلا كان نسخ القرآن بالسنة، وعنده أن ذلك غير جائز.

ثم قال الشافعي: قوله عليه السلام: "ألا لا وصية لوارث" لا ينفي الوصية أصلا للأقربين الذين لا يرثون، ودل لفظ الكتاب عليهم ولم يرد ما يوجب نسخه.

وقال الشافعي: حكم النبي عليه السلام في ستة مملوكين أعتقهم رجل ولا مال له غيرهم، فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة، والذي أعتقهم رجل من العرب، والعرب إنما تملك من لا قرابة بينهم وبينه من العجم، فأجاز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية، فالوصية لو كانت تبطل لغير قرابته بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت الوصية للوالدين..

ويعترض على هذا بأنه يجوز أن يكون أمه أعجمية فيكونوا أقرباء من قبل أمه عجما فيكون العتق وصية لأقربائه، ولأن فيه نسخ القرآن بالسنة.

والذي يقال في ذلك: أن قوله: والأقربين ليس نصا في حق غير الوارث بل يجوز أن يكون قد عنى بالأقربين الوارثين منهم، فغاية ما في ذلك تخصيص العموم لا النسخ. [ ص: 60 ] فيقال: اللفظ احتمل الوارث ونسخ، ويحتمل أن يقال: إن الناسخ له مطلق قوله: من بعد وصية ، ولم يعرف الوصية حتى ينصرف إلى المتقدم المذكور مثل قوله: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى قوله: فإذ لم يأتوا بالشهداء معرفا..

واستدل محمد بن الحسن على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين بهذه الآية، ولا خفاء لما فيه من الضعف..

التالي السابق


الخدمات العلمية