الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إعجاز القرآن ببلاغته :

                          ( الوجه الثاني ) : بلاغته التي تقاصرت عنها بلاغة سائر البلغاء قبله وفي عصر تنزيله وفيما بعده ، ولم يختلف أحد من أهل البيان في هذا ، وإنما أورد بعض المخالفين بعض الشبه على كون بلاغة كل سورة من قصار سوره بلغت حد الإعجاز فيه ، والقائلون به لا يحصرون إعجاز كل سورة فيه ، ويتحقق التحدي عندهم بإعجاز بعض السور القصيرة بغيره ، كأخبار الغيب في سورة الكوثر التي هي أقصر سوره ، على أن مسيلمة تصدى لمعارضتها بمحاكاة فواصلها ، فجاء بخزي كان حجة على عجزه وصحة إعجازها .

                          ومن الناس من لا يفقه سر هذه البلاغة ويماري فيما كتب علماء المعاني والبيان من قواعدها ، زاعمين أنه يمكن حمل كل كلام عليها ، وأن الإحالة على الذوق فيها إحالة على مجهول ، لا تقوم به حجة ولا يثبت به مدلول ؛ لأن الذوق المعنوي كالحسي خاص بصاحبه [ ص: 168 ] " من ذاق عرف " وسبب هذا جهلهم اللغة العربية الفصحى نفسها ، فقد مرت القرون في إثر القرون على ترك الناس لمدارسة الكلام البليغ منها ، واستظهاره واستعماله ، واقتصار مدارس الأمصار على قراءة كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع ، وهي أدنى ما وضع في فنونها فصاحة وبيانا ، وأشدها عجمة وتعقيدا ، وهي الكتب التي اقتصر مؤلفوها على سرد القواعد بعبارة فنية دقيقة بعيدة عن فصاحة أهل اللغة ، وعن بيان المتقدمين الواضعين لهذه الفنون ومن بعدهم إلى القرن الخامس ، كالخليل وسيبويه وأبي علي وابن جني وعبد القاهر الجرجاني ، حتى صار أوسع الناس علما بهذه الفنون أجهل قراء هذه اللغة بها ، وأعجزهم عن فهم الكلام البليغ منها ، بله الإتيان بمثله ، فمن يقرأ من كتب البلاغة إلا مثل السمرقندية وشرحي ( جوهر الفنون ) و ( عقود الجمان ) فشرحي التلخيص للسعد التفتازاني وحواشيهما لا يرجى أن يذوق للبلاغة طعما ، أو يقيم للبيان وزنا ، فأنى يهتدي إلى الإعجاز بهما سبيلا ، أو ينصب عليه دليلا ؟ وإنما يرجى هذا الذوق لمن يقرأ أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر ، فإنهما هما الكتابان اللذان يحيلانك في قوانين البلاغة على وجدانك ، وما تجد من أثر الكلام في قلبك وجنانك ، فترى أن علمي البيان شعبة من علم النفس ، وأن قواعدهما يشهد لها الشعور والحس ، ولكن لا بد مع ذلك من قراءة الكثير من منظوم الكلام البليغ ومنثوره ، واستظهار بعضه مع فهمه ، كما قرر حكيمنا ابن خلدون في الكلام على علم البيان من مقدمته .

                          فهذا هو الأصل في تحصيل ملكة البلاغة فهما وأداء ، والقوانين الموضوعة لها مستنبطة من الكلام البليغ وليس هو مستنبطا منها ، وقد عكست القضية منذ القرون الوسطى حتى ساغ لمستقل الفكر أن يقول في الكتب التي أشرنا إليها وهي التي تقرأ في مدرسة الجامع الأزهر وأمثالها : إن قواعدها تقليدية لا يمكن أن يعلم بها تفاضل الكلام ، إذ يمكن حمل كل كلام عليها ، ولذلك كان أكثر الناس مزاولة لها أضعفهم بيانا ، وأشدهم عيا وفهاهة .

                          فمعرفة مكانة القرآن من البلاغة لا يحكمها من الجهة الفنية والذوقية إلا من أوتي حظا عظيما من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور ، من مرسل ومسجوع ، حتى صار ملكة له وذوقا ، واستعان على فهم فلسفته بمثل كتابي عبد القاهر ، والصناعتين لأبي هلال العسكري ، والخصائص لابن جني ، وأساس البلاغة للزمخشري ، ومغني اللبيب لابن هشام ، هذه مقدمات البلاغة ونتيجتها الملكة ولها غاية يمكن العلم بها من التاريخ ، وهي ما كان للقرآن من التأثير في الأمة العربية ، ثم فيمن حذقها من الأعاجم أيضا .

                          الحد الصحيح للبلاغة في الكلام هي أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل ، والوجدان من النفس ( وقد يعبر عنهما بالقلب ) ولم يعرف في تاريخ البشر أن كلاما قارب القرآن في قوة تأثيره في العقول والقلوب ، فهو الذي قلب [ ص: 169 ] طباع الأمة العربية وحولها عن عقائدها وتقاليدها ، وصرفها عن عاداتها وعداواتها ، وصدف بها عن أثرتها وثاراتها ، وبدلها بأميتها حكمة وعلما ، وبجاهليتها أدبا رائعا وحلما ، وألف من قبائلها المتفرقة واحدة سادت العالم بعقائدها وفضائلها وعدلها وحضارتها ، وعلومها وفنونها .

                          اهتدى إلى هذا النوع من إعجاز بعض حكماء أوربة مستنبطا له من هذه الغاية التاريخية ، وبينه في الرد على من زعم من دعاة النصرانية أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يؤت مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات المعجزة ، فقال ما معناه : إن محمدا كان يتلو القرآن مولها مدلها ، خاشعا متصدعا ، فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به فوق ما كانت تفعل جميع آيات الأنبياء من قبله .

                          وقد رأينا وروينا عن بعض أدباء هذه اللغة من غير المسلمين أنهم يذهبون في بعض ليالي رمضان إلى بعض بيوت معارفهم من المسلمين ليسمعوا القرآن ويمتعوا ذوقهم العربي وشعورهم الروحاني الأدبي بسماع آياته المعجزة ، وقد شهد له أهل العلم والإنصاف منهم بهذا الإعجاز في النظم والأسلوب ، والبلاغة يغوص تأثيرها في أعماق القلوب ، ولكنهم لم يفقهوا دلالة ذلك على أنه من عند الله - عز وجل - ، وسنبينه في آخر هذا البحث .

                          ولو شئت أن أورد الشواهد على هذا الوجه ، لخرجت عن الاختصار الذي التزمته في هذا الفصل ، وإنك لتجد من التنبيه على عجائبها في كل جزء من هذا التفسير ما لا تجده في غيره ، حتى الدقة في معاني مفرداته ، وتحديد الحقائق في جمله ، ومزج المعاني الكثيرة في أسلوبه ، ولطف التناسب بين آياته وبين سوره ، ومن أعجبها ضروب إيجازه التي انفرد بها ، وكثرة تكراره للمعنى الواحد بعبارات لا يملها قارئ ولا سامع ، وقد نبهنا في هذا التفسير على الكثير منها . ومن العجب غفلة أكثر طلاب البلاغة عنها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية