الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            563 - ( وعن البراء بن عازب قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا بعيد ما بين المنكبين له شعر يبلغ شحمة أذنيه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا الترمذي والنسائي وأبو داود .

                                                                                                                                            وفي الباب عن أبي جحيفة عند البخاري وغيره أنه { رأى النبي صلى الله عليه وسلم خرج في حلة حمراء مشمرا صلى إلى العنزة بالناس ركعتين ، } وعن عامر المزني عند أبي داود بإسناد فيه اختلاف قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر وعلي عليه السلام أمامه يعبر عنه } قال في البدر المنير : وإسناده حسن ، وأخرج البيهقي عن جابر { أنه كان له صلى الله عليه وسلم ثوب أحمر يلبسه في العيدين والجمعة } . وروى ابن خزيمة في صحيحه نحوه بدون ذكر الأحمر ، والحديث احتج به من قال بجواز لبس الأحمر وهم الشافعية والمالكية وغيرهم .

                                                                                                                                            وذهبت العترة والحنفية إلى كراهة ذلك ، واحتجوا بحديث عبد الله بن عمرو الذي سيأتي بعد هذا ، وسيأتي في شرحه إن شاء الله تعالى ما يتبين به عدم انتهاضه للاحتجاج . واحتجوا أيضا بالأحاديث الواردة في تحريم المصبوغ بالعصفر ، قالوا : لأن العصفر يصبغ صباغ أحمر ، وهي أخص من الدعوى ، وقد عرفناك أن الحق أن ذلك النوع من الأحمر لا يحل لبسه ( ومن أدلتهم ) حديث رافع بن خديج عند أبي داود ، قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن أحمر ، فقال : ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم ، فقمنا سراعا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا الأكسية فنزعناها [ ص: 113 ] عنها } وهذا الحديث لا تقوم به حجة لأن في إسناده رجلا مجهولا .

                                                                                                                                            ومن أدلتهم حديث { إن امرأة من بني أسد قالت : كنت يوما عند زينب امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصبغ ثيابها بمغرة والمغرة : صباغ أحمر قالت : فبينا نحن كذلك إذ طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المغرة رجع ، فلما رأت ذلك زينب علمت أنه صلى الله عليه وسلم قد كره ما فعلت وأخذت فغسلت ثيابها ووارت كل حمرة ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع فاطلع ، فلما لم ير شيئا دخل } الحديث أخرجه أبو داود وفي إسناده إسماعيل بن عياش وابنه ، وفيهما مقال مشهور . وهذه الأدلة غاية ما فيها لو سلمت صحتها ، وعدم وجدان معارض لها الكراهة لا التحريم ، فكيف وهي غير صالحة للاحتجاج بها لما في أسانيدها من المقال الذي ذكرنا ، ومعارضة بتلك الأحاديث الصحيحة .

                                                                                                                                            نعم من أقوى حججهم ما في صحيح البخاري من النهي عن المياثر الحمر ، وكذلك ما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي من حديث علي قال : { نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي والميثرة الحمراء } ولكنه لا يخفى عليك أن هذا الدليل أخص من الدعوى ، وغاية ما في ذلك تحريم الميثرة الحمراء ، فما الدليل على تحريم ما عداها ، مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وسلم له مرات ، ومن أصرح أدلتهم حديث رافع بن برد أو رافع بن خديج كما قال ابن قانع مرفوعا بلفظ : { إن الشيطان يحب الحمرة فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة } أخرجه الحاكم في الكنى وأبو نعيم في المعرفة وابن قانع وابن السكن وابن منده وابن عدي . ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن عمران بن حصين مرفوعا بلفظ : { إياكم والحمرة فإنها أحب الزينة إلى الشيطان . } وأخرج نحو عبد الرزاق من حديث الحسن مرسلا وهذا إن صح كان أنص أدلتهم على المنع ، ولكنك قد عرفت لبسه صلى الله عليه وسلم للحلة الحمراء في غير مرة ، ويبعد منه صلى الله عليه وسلم أن يلبس ما حذرنا من لبسه معللا ذلك بأن الشيطان يحب الحمرة ، ولا يصح أن يقال ههنا فعله لا يعارض القول الخاص بنا ، كما صرح بذلك أئمة الأصول ، لأن تلك العلة مشعرة بعدم اختصاص الخطاب بنا ، إذ تجنب ما يلابسه الشيطان هو صلى الله عليه وسلم أحق الناس به .

                                                                                                                                            فإن قلت : فما الراجح إن صح ذلك الحديث ؟ قلت : قد تقرر في الأصول أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا لم يصاحبه دليل خاص يدل على التأسي به فيه كان مخصصا له عن عموم القول الشامل له بطريق الظهور ، فيكون على هذا لبس الأحمر مختصا به ، ولكن ذلك الحديث غير صالح للاحتجاج به كما صرح بذلك الحافظ وجزم بضعفه لأنه من رواية أبي بكر البدلي وقد بالغ الجوزجاني فقال : باطل ، فالواجب البقاء على البراءة الأصلية المعتضدة بأفعاله الثابتة في الصحيح لا سيما مع ثبوت لبسه لذلك بعد حجة الوداع ولم يلبث بعدها إلا أياما يسيرة ، وقد زعم ابن القيم أن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود ، وغلط من قال إنها كانت حمراء بحتا ، [ ص: 114 ] قال : وهي معروفة بهذا الاسم ، ولا يخفاك أن الصحابي قد وصفها بأنها حمراء وهو من أهل اللسان ، والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت ، والمصير إلى المجاز أعني كون بعضها أحمر دون بعض لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب .

                                                                                                                                            فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى ، والواجب حمل مقالة ذلك الصحابي على لغة العرب ، لأنها لسانه ولسان قومه ، فإن قال : إنما فسرها بذلك التفسير للجمع بين الأدلة فمع كون كلامه آبيا عن ذلك لتصريحه بتغليط من قال : إنها الحمراء البحت ، لا ملجأ إليه لإمكان الجمع بدونه كما ذكرنا مع أن حمله الحلة الحمراء على ما ذكر ينافي ما احتج به في أثناء كلامه من إنكاره صلى الله عليه وسلم على القوم الذين رأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر وفيه دليل على كراهية ما فيه الخطوط وتلك الحلة كذلك بتأويله .

                                                                                                                                            قوله : ( في الحديث يبلغ شحمة أذنيه ) هي اللين من الأذن في أسفلها وهو معلق القرط منها ، وقد اختلفت الروايات الصحيحة في شعره فههنا " إلى شحمة أذنيه " وفي رواية " كان يبلغ شعره منكبيه " وفي رواية " إلى أنصاف أذنيه وعاتقه " . قال القاضي : الجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنه وعاتقه ، وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه . وقيل : كان ذلك لاختلاف الأوقات ، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب ، وإذا قصرها كانت إلى أنصاف أذنيه ، وكان يقصر ويطول بحسب ذلك . وقد تقدم نحو هذا في باب اتخاذ الشعر .

                                                                                                                                            وفي فتح الباري أن في لبس الثوب الأحمر سبعة مذاهب .

                                                                                                                                            الأول : الجواز مطلقا ، جاء عن علي وطلحة وعبد الله بن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة ، وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وطائفة من التابعين .

                                                                                                                                            الثاني : المنع مطلقا ، ولم ينسبه الحافظ إلى قائل معين ، إنما ذكر أخبارا وآثارا يعرف بها من قال بذلك .

                                                                                                                                            الثالث : يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفا ، جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد .

                                                                                                                                            الرابع : يكره لبس الأحمر مطلقا لقصد الزينة والشهرة ، ويجوز في البيوت والمهنة ، جاء ذلك عن ابن عباس .

                                                                                                                                            الخامس : يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج ، ويمنع ما صبغ بعد النسج جنح إلى ذلك الخطابي .

                                                                                                                                            السادس : اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر ولم ينسبه إلى أحد .

                                                                                                                                            السابع : تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله ، وأما ما فيه لون آخر غير أحمر فلا .

                                                                                                                                            حكي عن ابن القيم أنه قال بذلك بعض العلماء ، ثم قال الحافظ : والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء ، وإن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء فيكون النهي عنه لا لذاته ، [ ص: 115 ] وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع ، حيث يقع ذلك ، وإلا فلا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين لبسه في المحافل والبيوت .

                                                                                                                                            564 - ( وعن عبد الله بن عمرو قال : { مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه } . رواه الترمذي وأبو داود ، وقال : معناه عند أهل الحديث أنه كره المعصفر ، وقال : ورأوا أن ما صبغ بالحمرة من مدر أو غيره فلا بأس به إذا لم يكن معصفرا ) . الحديث قال الترمذي : إنه حسن غريب من هذا الوجه ا هـ .

                                                                                                                                            وفي إسناده أبو يحيى القتات ، وقد اختلف في اسمه فقيل : عبد الرحمن بن دينار ، وقيل : زاذان ، وقيل : عمران ، وقيل : مسلم ، وقيل : زياد ، وقيل : يزيد . قال المنذري : وهو كوفي لا يحتج بحديثه . قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو ، ولا نعلم له طريقا إلا هذه الطريق ولا نعلم رواه إسرائيل إلا عن إسحاق بن منصور . قال الحافظ في الفتح : حديث ضعيف الإسناد وإن وقع في نسخ الترمذي أنه حسن . والحديث احتج به القائلون بكراهية لبس الأحمر وقد تقدم ذكرهم .

                                                                                                                                            وأجاب المبيحون عنه بأنه لا ينتهض للاستدلال به في مقابلة الأحاديث القاضية بالإباحة لما فيه من المقال وبأنه واقعة عين فيحتمل أن يكون ترك الرد عليه بسبب آخر وحمله البيهقي على ما صبغ بعد النسج لا ما صبغ غزلا ثم نسج فلا كراهة فيه . قال ابن التين : زعم بعضهم أن لبس النبي صلى الله عليه وسلم الحلة كان لأجل الغزو ، وفيه نظر لأنه كان عقيب حجة الوداع ولم يكن له إذ ذاك غزو ، وقد قدمنا الكلام على حجج الفريقين مستوفى . قول ( فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه ) فيه جواز ترك الرد على من سلم وهو مرتكب لمنهي عنه ردعا له وزجرا عن معصيته . قال ابن رسلان : ويستحب أن يقول المسلم عليه أنا لم أرد عليك لأنك مرتكب لمنهي عنه . وكذلك يستحب ترك السلام على أهل البدع والمعاصي الظاهرة تحقيرا لهم وزجرا ، ولذلك قال كعب بن مالك : فسلمت عليه فوالله ما رد السلام علي والجمع الذي ذكره الترمذي ونسبه إلى أهل الحديث جمع حسن لانتهاض الأحاديث القاضية بالمنع من لبس ما صبغ بالعصفر




                                                                                                                                            الخدمات العلمية