الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين )

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله ( فاكهين ) يزيد في ذلك لأن المتنعم قد يكون آثار التنعم على ظاهره وقلبه مشغول ، فلما قال : ( فاكهين ) يدل على غاية الطيبة ، وقوله ( بما آتاهم ربهم ) يفيد زيادة في ذلك ، لأن الفكه قد يكون خسيس النفس فيسره أدنى شيء ، ويفرح بأقل سبب ، فقال : ( فاكهين ) لا لدنو هممهم بل لعلو نعمهم حيث هي من عند ربهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ) يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون المراد أنهم " فاكهون " بأمرين أحدهما : بما آتاهم . والثاني : بأنه وقاهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أن يكون ذلك جملة أخرى منسوقة على الجملة الأولى ، كأنه بين أنه أدخلهم جنات ونعيما ( ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين ) وفيه بيان أسباب التنعيم على الترتيب ، فأول ما يكون المسكن وهو الجنات ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج ، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب ، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله، قوله ( جنات ) إشارة إلى المسكن، والمسكن للجسم ضروري وهو المكان ، فقال : ( فاكهين ) لأن مكان التنعيم قد يتنغص بأمور وبين أن سبب الفكاهة وعلو المرتبة يكون مما آتاهم الله ، وقد ذكرنا هذا ، وأما في الأكل والشرب والإذن المطلق فترك ذكر المأكول والمشروب لتنوعهما وكثرتهما ، وقوله تعالى : ( هنيئا ) إشارة إلى خلوهما عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا ، منها أن الآكل يخاف من المرض فلا يهنأ له الطعام ، ومنها أنه يخاف النفاد فلا يسخو بالأكل والكل منتف في الجنة فلا مرض ولا انقطاع ، فإن كل أحد عنده ما يفضل عنه ، ولا إثم ولا تعب في تحصيله ، فإن الإنسان في الدنيا ربما يترك لذة الأكل لما فيه من تهيئة المأكول بالطبخ والتحصيل من التعب أو المنة أو ما فيه من قضاء الحاجة واستقذار ما فيه ، فلا يتهنأ ، وكل ذلك في الجنة منتف . وقوله تعالى : ( بما كنتم تعملون ) إشارة إلى أنه تعالى يقول ، أي مع أني ربكم وخالقكم وأدخلتكم بفضلي الجنة ، وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى : ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ) [ الحجرات : 17] . وأما اليوم فلا من عليكم لأن هذا إنجاز الوعد، فإن قيل : قال في حق الكفار : ( إنما تجزون ما كنتم تعملون ) [ التحريم : 7] وقال في حق المؤمنين : ( بما كنتم تعملون ) فهل بينهما فرق ؟ قلت بينهما بون عظيم من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 214 ] الأول : كلمة ( إنما ) للحصر أي لا تجزون إلا ذلك ، ولم يذكر هذا في حق المؤمن فإنه يجزيه أضعاف ما عمل ويزيده من فضله ، وحينئذ إن كان يمن الله على عبده فيمن بذلك لا بالأكل والشرب. الثاني : قال هنا ( بما كنتم ) وقال هناك ( ما كنتم ) أي تجزون عين أعمالكم إشارة إلى المبالغة في المماثلة، كما تقول هذا عين ما عملت وقد تقدم بيان هذا، وقال في حق المؤمن ( بما كنتم ) كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملكم هذا . الثالث : ذكر الجزاء هناك وقال هاهنا ( بما كنتم تعملون ) لأن الجزاء ينبئ عن الانقطاع فإن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسن منه شيئا آخر . فإن قيل فالله تعالى قال في مواضع ( جزاء بما كانوا يعملون ) [ الواقعة : 24] في الثواب ، نقول في تلك المواضع لما لم يخاطب المجزى لم يقل تجزى وإنما أتى بما يفيد العالم بالدوام وعدم الانقطاع . وأما في السرر فذكر أمورا أيضا أحدها : الاتكاء فإنه هيئة تختص بالمنعم والفارغ الذي لا كلفة عليه ولا تكلف لديه، فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس له ولا يتكئ عنده ، ومن يكون في مهم لا يتفرغ للاتكاء فالهيئة دليل خير . ثم الجمع يحتمل أمرين أحدهما : أن يكون لكل واحد سرر وهو الظاهر لأن قوله ( مصفوفة ) يدل على أنها لواحد لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفة، ولفظ السرير فيه حروف السرور بخلاف التخت وغيره ، وقوله ( مصفوفة ) دليل على أنه لمجرد العظم فإنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد ليتكئ عليه صاحبه إذا حضر في هذا الموضع ، وقوله تعالى : ( وزوجناهم ) إشارة إلى النعمة الرابعة، وفيها أيضا ما يدل على كمال الحال من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى هو المزوج وهو يتولى الطرفين يزوج عباده بأمانه، ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء . ثانيها : قال : ( وزوجناهم بحور ) ولم يقل وزوجناهم حورا مع أن لفظة التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف يقال زوجتكها قال تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ) [ الأحزاب : 37] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم وذلك لأن المفعول بغير حرف يعلق الفعل به كذلك التزويج تعلق بهم ثم بالحور ، لأن ذلك بمعنى جعلنا ازدواجهم بهذا الطريق وهو الحور . ثالثها : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحسن واختار الأحسن من الأحسن ، فإن أحسن ما في صورة الآدمي وجهه، وأحسن ما في الوجه العين ، ولأن الحور والعين يدلان على حسن المزاج في الأعضاء ووفرة المادة في الأرواح ، أما حسن المزاج فعلامته الحور ، وأما وفرة الروح فإن سعة العين بسبب كثرة الروح المصوبة إليها ، فإن قيل قوله ( وزوجناهم ) ذكره بفعل ماض و ( متكئين ) حال ولم يسبق ذكر فعل ماض ، يعطف عليه ذلك وعطف الماضي على الماضي والمستقبل على المستقبل أحسن ، نقول الجواب من وجوه اثنان لفظيان ومعنوي :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن ذلك حسن في كثير من المواضع ، تقول جاء زيد ويجيء عمرو وخرج زيد . ثانيها : أن قوله تعالى : ( إن المتقين في جنات ونعيم ) تقديره أدخلناهم في جنات ، وذلك لأن الكلام على تقدير أن في اليوم الذي يدع الكافر في النار في ذلك الوقت يكون المؤمن قد أدخل مكانه ، فكأنه تعالى يقول في ( يوم يدعون إلى نار جهنم ) إن المتقين كائنون في جنات . والثالث : المعنوي وهو أنه تعالى ذكر مجزاة الحكم ، فهو في هذا اليوم زوج عباده حورا عينا ، وهن منتظرات الزفاف يوم الآزفة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية