الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 149 ] قال ( ومن وكل آخر بشيء ثم تصرف بنفسه فيما وكل به بطلت الوكالة ) وهذا اللفظ ينتظم وجوها : مثل أن يوكله بإعتاق عبده أو بكتابته فأعتقه أو كاتبه الموكل بنفسه أو يوكله بتزويج امرأة أو بشراء شيء ففعله بنفسه أو يوكله بطلاق امرأته فطلقها الزوج ثلاثا أو واحدة وانقضت عدتها أو بالخلع فخالعها ، بنفسه لأنه لما [ ص: 150 ] تصرف بنفسه تعذر على الوكيل التصرف فبطلت الوكالة ، حتى لو تزوجها بنفسه وأبانها لم يكن للوكيل أن يزوجها منه لأن الحاجة قد انقضت ، بخلاف ما إذا تزوجها الوكيل وأبانها له أن يزوج الموكل لبقاء الحاجة ، وكذا لو وكله ببيع عبده فباعه بنفسه ، فلو رد عليه بعيب بقضاء قاض ; فعن أبي يوسف رحمه الله أنه ليس للوكيل أن يبيعه مرة أخرى لأن بيعه بنفسه منع له من التصرف فصار كالعزل . وقال محمد رحمه الله : له أن يبيعه مرة أخرى لأن الوكالة باقية لأنه إطلاق والعجز قد زال [ ص: 151 ] بخلاف ما إذا وكله بالهبة فوهب بنفسه ثم رجع لم يكن للوكيل أن يهب لأنه مختار في الرجوع فكان ذلك دليل عدم الحاجة . أما الرد بقضاء بغير اختياره فلم يكن دليل زوال الحاجة ، فإذا عاد إليه قديم ملكه كان له أن يبيعه ، والله أعلم .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( ومن وكل آخر بشيء ) من الإثباتات أو الإسقاطات ( ثم تصرف ) أي الموكل ( بنفسه فيما وكل به بطلت الوكالة ) إلى هنا لفظ القدوري .

قال المصنف ( وهذا اللفظ ينتظم وجوها كثيرة ) من المسائل ( مثل أن يوكله ) أي الآخر ( بإعتاق عبده ) أي عبد الموكل ( أو بكتابته ) أي بكتابة عبده ( فأعتقه ) أي أعتق ذلك العبد ( أو كاتبه الموكل بنفسه ) فإن الوكالة تبطل حينئذ ( أو يوكله بتزويج امرأة ) أي أو أن يوكله بتزويج امرأة معينة إياه ( أو بشراء شيء ) أي أو أن يوكله بشراء شيء بعينه له ( ففعله بنفسه ) أي ففعل الموكل ما وكل به بنفسه بأن يتزوجها بنفسه أو يشتريه بنفسه ، فإن ذلك كان عزلا للوكيل فتبطل الوكالة ( أو يوكله بطلاق امرأته فطلقها الزوج ) وهو الموكل ( ثلاثا ) أي ثلاث تطليقات ( أو واحدة ) أي أو طلقها طلقة واحدة ( وانقضت عدتها ) فإن الوكالة تبطل هناك أيضا ، ولا يكون للموكل بعد ذلك أن يطلقها ، وإنما قيد بالثلاث وقيد الواحدة بانقضاء العدة ، والمراد بها ما دون الثلاث لأنه إذا وكله بالطلاق ثم طلقها الموكل تطليقة واحدة أو ثنتين بائنة كانت أو رجعية . فإن للوكيل أن يطلقها ما دامت في العدة ، وأما إذا طلقها الموكل تطليقات ثلاثا فلا يملك الوكيل طلاقها لا في العدة ولا بعدها ، والأصل فيه أن ما كان الموكل فيه قادرا على الطلاق كان وكيله أيضا قادرا عليه ، وما لا فلا ، كذا ذكره في النهاية والعناية .

أقول : في هذا الأصل نوع إشكال إذ لطالب أن يطلب الفرق حينئذ بين هذه المسألة وبين مسألة التوكيل بتزويج امرأة ، فإن الموكل هناك لو تزوجها بنفسه ثم أبانها لم يكن للوكيل أن يزوجها منه كما صرح به في عامة الكتب ، وذكره المصنف أيضا فيما بعد ، مع أن الموكل قادر على تزوجها بنفسه مرة أخرى فلم لم يقدر الوكيل أيضا على أن يزوجها منه مرة أخرى ؟ وعلل في البدائع عدم قدرة الوكيل عليه بأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار ، فإذا فعل مرة حصل الامتثال فانتهى حكم الأمر كما في الأوامر الشرعية .

والظاهر أن هذا التعليل يقتضي أن لا يقدر الوكيل على التطليق بعد تطليق الموكل مطلقا في مسألة التوكيل بالطلاق أيضا . فإن قيل : بطلان الوكالة في مسألة التوكيل بالتزويج بتزويج الموكل بنفسه بناء على انقضاء الحاجة كما ذكره المصنف فيما بعد . قلنا : قد انقضت الحاجة في مسألة التوكيل بالطلاق أيضا بتطليق الموكل بنفسه . لا يقال : قد تقع الحاجة إلى تكرار الطلاق تشديدا للفرقة . لأنا نقول : قد تقع الحاجة إلى التزوج مرة أخرى أيضا فلم يتضح الفرق فتأمل ( أو بالخلع ) أي أو أن يوكله بأن يخالع امرأته ( فخالعها ) أي فخالعها الموكل ( بنفسه ) فإن الوكالة تبطل هناك أيضا .

قال المصنف في تعليل المسائل المذكورة كلها ( لأنه ) أي الموكل ( لما [ ص: 150 ] تصرف ) فيما وكل به ( بنفسه تعذر على الوكيل التصرف ) في ذلك لامتناع تحصيل الحاصل ( فبطلت الوكالة ) في جميع ما ذكر ( حتى لو تزوجها ) أي لو تزوج الموكل المرأة التي وكل الآخر بتزويجها منه ( بنفسه وأبانها ) أي أبانها بعد أن تزوجها بنفسه . ( لم يكن للوكيل أن يزوجها منه ) أي لم يكن للوكيل أن يزوج تلك المرأة المبانة من الموكل مرة أخرى ( لأن الحاجة قد انقضت ) أي لأن حاجة الموكل قد انقضت بتزوجها بنفسه . أقول : هاهنا كلام : أما أولا فلأن تفريع هذه المسألة بحتى على التعليل الذي ذكره لبطلان الوكالة في المسائل المذكورة ليس بتام ; لأن الموكل إنما تصرف بنفسه في تزوجها مرة أولى ، فهو الذي تعذر على الوكيل التصرف فيه على موجب التعليل المذكور .

وفحوى هذه المسألة أن لا يكون للوكيل تزويجها من الموكل مرة أخرى ، ولا تأثير فيه للتعليل المذكور لأن الموكل لم يتصرف بنفسه في هذه المرة حتى يتعذر على الوكيل التصرف فيها ، فالأولى أن يترك أداة التفريع ويذكر هذه المسألة على سبيل الاستقلال كما وقع في سائر المعتبرات .

وأما ثانيا فلأنه إن أراد بقوله لأن الحاجة قد انقضت أن الحاجة إلى تزوجها مرة أولى قد انقضت فهو مسلم ، ولكن هذا لا ينافي بقاء الحاجة إلى تزوجها مرة أخرى فلا يتم التقريب ، وإن أراد بذلك أن الحاجة إلى تزوجها مطلقا قد انقضت فهو ممنوع ، إذ قد يحتاج الرجل إلى تزوج امرأة واحدة مرارا متعددة لأسباب داعية إليه .

فالأولى في تعليل هذه المسألة ما ذكر في البدائع من أن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار ، فإذا فعل مرة حصل الامتثال فانتهى حكم الأمر كما في الأوامر الشرعية ( بخلاف ما إذا تزوجها الوكيل ) أي بخلاف ما إذا تزوج الوكيل المرأة التي وكل بتزويجها من الموكل ( وأبانها ) أي وأبانها بعد أن تزوجها حيث يكون ( له أن يزوج الموكل ) تلك المرأة المبانة ( لبقاء الحاجة ) أي لبقاء حاجة الموكل إلى تزوجها ( وكذا لو وكله ببيع عبده فباعه بنفسه ) أي فباع الموكل ذلك العبد بنفسه يعني بطلت الوكالة في هذه الصورة أيضا ( فلو رد عليه ) أي فلو رد العبد على الموكل ( بعيب بقضاء قاض ; فعن أبي يوسف أنه ليس للوكيل أن يبيعه مرة أخرى ) روى ذلك عنه ابن سماعة كما صرح به في الذخيرة ( لأن بيعه بنفسه ) أي لأن بيع الموكل ذلك العبد بنفسه ( منع له من التصرف ) حكما ( فصار كالعزل ) أي فصار ذلك كعزل الوكيل عن الوكالة فلا يعود وكيلا إلا بتجديد الوكالة ( وقال محمد : له ) أي للوكيل ( أن يبيعه ) أي أن يبيع ذلك العبد ( مرة أخرى لأن الوكالة باقية لأنه ) أي لأن الوكالة بتأويل التوكيل أو العقد أو باعتبار الخبر وقد مر غير مرة ( إطلاق ) أي إطلاق التصرف وهو باق والامتناع إنما كان لعجز الوكيل عن التصرف بخروج العبد عن ملك الموكل ( والعجز قد زال ) أي وعجز الوكيل قد [ ص: 151 ] زال بعود العبد إلى قديم ملك الموكل فعادت الوكالة ، وإنما قيد الرد بالعيب على الموكل بقضاء القاضي لأن الموكل إذا قبله بالعيب بعد البيع بغير القضاء فليس للوكيل أن يبيعه مرة أخرى بالإجماع ; لأن الرد بغير القضاء كالعقد المبتدإ في حق غير المتعاقدين والوكيل غيرهما ، فكان في حق الوكيل كأن الموكل اشتراه ابتداء .

واعلم أنه ذكر في المبسوط مسألة الرد بالعيب بقضاء القاضي من غير خلاف في جواز البيع للوكيل ، ووضع المسألة في الأمة فقال : ولو باعها الوكيل أو الآمر ثم ردت بعيب بقضاء قاض فللوكيل أن يبيعها لأن الرد بالعيب بقضاء قاض فسخ من الأصل وعادت إلى قديم ملك الموكل ، وإن قبلها الموكل بالعيب بغير قضاء بعد قبض المشتري لم يكن للوكيل أن يبيعها ، وكذلك إن تقايلا البيع فيها لأن هذا السبب كالعقد المبتدإ في حق غير المتعاقدين والوكيل غيرهما فكان في حق الوكيل كأن الموكل اشتراها ابتداء ، وكذلك إن رجعت إلى الموكل بميراث أو هبة أو غيرهما بملك جديد لم يكن للوكيل بيعها ; لأن الوكالة تعلقت بالملك الأول ، وهذا ملك جديد سوى الأول فلا يثبت فيه حكم الوكالة إلا بتجديد توكيل من المالك انتهى .

ولم يذكر الخلاف أيضا في المسألة المذكورة في الأصل ولا في الكافي للحاكم الشهيد ولا في شرحه للإمام علاء الدين الإسبيجابي ، ولكن ذكره القدوري في شرحه فقال : قال أبو يوسف رحمه الله : ليس للوكيل أن يبيعه . وقال محمد : له أن يبيعه .

ثم اعلم أن صاحب البدائع بعد أن ذكر الخلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في المسألة المذكورة قال : ولو وكله أن يهب عبده فوهبه الموكل بنفسه ثم رجع في هبته لا تعود الوكالة حتى لا يملك الوكيل أن يهبه ، محمد يحتاج إلى الفرق بين البيع والهبة ، ووجه الفرق له لم يتضح انتهى .

فقد أراد المصنف بيان وجه الفرق بينهما على قول محمد فقال ( بخلاف ما إذا وكله بالهبة فوهب ) أي الموكل ( بنفسه ثم رجع ) عن هبته حيث ( لم يكن للوكيل أن يهب ) مرة أخرى بالإجماع ( لأنه ) أي لأن الموكل الواهب بنفسه ( مختار في الرجوع فكان ذلك ) أي كان رجوعه مختارا ( دليل عدم الحاجة ) إلى الهبة ، إذ لو كان محتاجا إليها لما رجع عنها فكان دليلا على نقض الوكالة ( أما الرد بقضاء ) أي أما رد المبيع بقضاء القاضي على الموكل البائع بنفسه فهو ( بغير اختياره ) أي بغير اختيار الموكل البائع ( فلم يكن دليل زوال الحاجة ) إلى البيع . أقول : من العجائب هاهنا أن الشارح العيني قال في شرح قول المصنف : أما الرد بقضاء : أي أما رد الهبة بقضاء القاضي ، وفي شرح قوله بغير اختياره : أي اختيار الواهب حيث زعم أن مراد المصنف بيان الفرق بين رد الهبة بالاختيار وبين ردها بقضاء القاضي وهذا مع كونه غير صحيح في نفسه كيف غفل عن تعلق قوله بخلاف ما إذا وكله بالهبة بما سبق من مسألة توكيله بالبيع ، وماذا يقول في قوله ( فإذا عاد إليه ) أي إلى الموكل ( قديم ملكه كان له ) أي للوكيل ( أن يبيعه ، والله أعلم ) فإنه صريح في أن مراده الفرق بين البيع والهبة .

وذكر في التتمة قال محمد : لا يشبه الهبة البيع ; لأن الوكالة بالبيع لا تنقضي بمباشرة البيع لأن الوكيل بعدما باع يتولى حقوق العقد ويتصرف فيها بحكم الوكالة ، فإذا انفسخ البيع والوكالة باقية جاز له أن يبيع له ثانيا بحكمها ، أما الوكالة بالهبة فتنقضي بمباشرة الهبة حتى لا يملك الوكيل الواهب الرجوع ولا يصح تسليمه ، فإذا رجع الموكل في هبته عاد إليه العبد ولا وكالة فلا يتمكن الوكيل من الهبة ثانيا انتهى . قال في البدائع : ثم هذه الأشياء التي ذكرنا أنه يخرج بها الوكيل عن الوكالة سوى العزل والنهي لا يفترق الحال فيها بين ما إذا علم الوكيل بها أو إذا لم يعلم في حق الخروج عن الوكالة ، لكن تقع المفارقة فيها بين البعض [ ص: 152 ] والبعض من وجه آخر ، وهو أن الموكل إذا باع العبد الموكل ببيعه بنفسه ولم يعلم به الوكيل وقبض الثمن فهلك الثمن في يده ومات العبد قبل التسليم إلى المشتري يرجع المشتري على الوكيل بالثمن ويرجع الوكيل على الموكل ، فكذا لو دبره وأعتقه أو استحق أو كان حر الأصل ، وفيما إذا مات الموكل أو جن أو هلك العبد الذي وكل ببيعه أو نحو ذلك لا يرجع .

والفرق أن الوكيل هناك وإن صار معزولا بتصرف الموكل لكنه صار مغرورا من جهته بترك إعلامه إياه فصار كفيلا له بما يلحقه من الضمان فيرجع عليه بضمان الكفالة أو ضمان الغرور في الحقيقة ضمان الكفالة ، ومعنى الغرور لا يتقرر في الموت وهلاك العبد والجنون وأخواتها فهو الفرق .

ولو وكله بقبض دين له على رجل ثم إن الموكل وهب المال للذي عليه الدين والوكيل لا يعلم بذلك فقبض الوكيل المال فهلك في يده كان لدافع الدين أن يأخذ به الموكل ولا ضمان على الوكيل ; لأن يد الوكيل يد نيابة عن الموكل ; لأنه قبضه بأمره وقبض النائب كقبض المنوب عنه فكأنه قبضه بنفسه بعدما وهبه منه ، ولو كان كذلك لرجع عليه ، فكذا هذا ، إلى هنا لفظ البدائع .




الخدمات العلمية