الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 152 ] ( كتاب الدعوى ) [ ص: 153 ] قال ( المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها والمدعى عليه من يجبر على الخصومة ) [ ص: 154 ] ومعرفة الفرق بينهما من أهم ما يبتنى عليه مسائل الدعوى ، وقد اختلفت عبارات المشايخ رحمهم الله فيه ، فمنها ما قال في الكتاب وهو حد عام صحيح . وقيل المدعي من لا يستحق إلا بحجة كالخارج ، والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد [ ص: 155 ] وقيل المدعي من يتمسك بغير الظاهر والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر [ ص: 156 ] وقال محمد رحمه الله في الأصل : المدعى عليه هو المنكر ، وهذا صحيح لكن الشأن في معرفته والترجيح بالفقه عند الحذاق من أصحابنا رحمهم الله لأن الاعتبار للمعاني دون الصور ، فإن المودع إذا قال رددت الوديعة فالقول له مع اليمين وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان .

التالي السابق


( كتاب الدعوى )

لما كانت الوكالة بالخصومة التي هي أشهر أنواع الوكالات سببا داعيا إلى الدعوى ذكر كتاب الدعوى عقيب كتاب الوكالة لأن المسبب يتلو السبب . ثم إن هاهنا أمورا من دأب الشراح بيان أمثالها في أوائل الكتب ، وهي معنى الدعوى لغة وشرعا وسببها وشرطها وحكمها ونوعها ، فقال صاحب العناية : وهي في اللغة عبارة عن قول يقصد به الإنسان إيجاب حق على غيره ، وفي عرف الفقهاء : مطالبة حق في مجلس من له الخلاص عند ثبوته انتهى . واعترض عليه بعض الفضلاء بأن المطالبة من شرائط صحة الدعوى كما سيجيء فلا يستقيم تعريفها بها للمباينة إلا أن تؤول بالمشروط بالمطالبة . أقول : هذا ساقط لأن كون المطالبة من شرائط صحة الدعوى لا ينافي استقامة تعريف نفس الدعوى بها ، إذ المباينة لصحة الشيء لا تقتضي المباينة لذلك الشيء ; ألا يرى أن كل شيء مباين لصحته لكونها وصفا مغايرا له وليس بمباين لنفسه قطعا غاية ما لزم هاهنا أن يكون صحة الدعوى مشروطا بالمطالبة التي هي نفس الدعوى ولا محذور فيه ، فإن صحة الدعوى وصف لها وتحقق الوصف مشروط بتحقق الموصوف دائما [ ص: 153 ] وقال صاحب النهاية بعد بيان معناها اللغوي والشرعي على وجه البسط والتفصيل : وأما سببها فما هو السبب الذي ذكرناه في النكاح والبيوع ; لأن دعوى المدعي لا تخلو إما أن تكون أمرا راجعا إلى إبقاء نسله أو أمرا راجعا إلى بقاء نفسه وما يتبعهما ، وكلاهما قد ذكرا ، وأما شرط صحتها على الخصوص فمجلس القضاء ; لأن الدعوى لا تصح في غير هذا المجلس حتى لا يجب على المدعى عليه جواب المدعي .

ومن شرائط صحتها أيضا أن يكون دعوى المدعي على خصم حاضر ، وأن يكون المدعى به شيئا معلوما ، وأن يتعلق به حكم على المطلوب لما أن الفاسدة من الدعوى هي أن لا يكون الخصم حاضرا وأن يكون المدعى به مجهولا ، لأن عند الجهالة لا يمكن للشهود الشهادة ولا للقاضي القضاء به ، وأن لا يلزم على المطلوب شيء بدعواه نحو أن يدعي أنه وكيل هذا الخصم الحاضر في أمر من أموره ، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا أنكر آخر لأنه يمكنه عزله في الحال . وأما حكمها فوجوب الجواب على الخصم بنعم أو بلا ، ولهذا وجب على القاضي إحضاره مجلس الحكم حتى يوفي ما استحق عليه من الجواب . وأما أنواعها فشيئان : دعوى صحيحة ، ودعوى فاسدة .

فالصحيحة ما يتعلق بها أحكامها وهي إحضار الخصم والمطالبة بالجواب واليمين إذا أنكر ، وفي مثل هذه الدعوى يمكن إثبات المدعى بالبينة أو بالنكول ، والدعوى الفاسدة ما لا يتعلق بها هذه الأحكام ، وفساد الدعوى بأحد معنيين : إما أن لا يكون ملزما للخصم شيئا وإن ثبتت على ما قلنا من أن يدعي على غيره أنه وكيله . والثاني أن يكون مجهولا في نفسه والمجهول لا يمكن إثباته بالبينة فلا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول لا بالبينة ولا بالنكول انتهى . أقول : في تحريره نوع اختلال واضطراب . فإن قوله وأما شرط صحتها على الخصوص إلى قوله وأن يتعلق به حكم على المطلوب يدل على أن لصحتها شروطا أربعة : وهي مجلس القضاء ، وحضور الخصم ، وكون المدعى به شيئا معلوما وأن يتعلق به حكم على المطلوب .

ويقتضي هذا أن يكون فسادها بأحد أمور أربعة وهي : انتفاءات هذه الشروط الأربعة ، وأن قوله لما أن الفاسدة من الدعوى هي أن لا يكون الخصم حاضرا إلى قوله لأنه يمكنه عزله في الحال يشعر بأن فسادها إنما هو بأمور ثلاثة ، وهي عدم حضور الخصم ، وأن يكون المدعى به مجهولا ، وأن لا يلزم على المطلوب شيء بالدعوى بناء على أن المعرف فاللام الجنس إذا جعل مبتدأ كما في قوله إن الفاسدة من الدعوى فهو مقصور على الخبر نحو : الكرم التقوى . والإمام من قريش .

على ما عرف في علم العربية ، وأن قوله وفساد الدعوى بأحد معنيين إلخ يدل على أن فسادها بأحد الأمرين لا غير ; لأن إضافة المصدر كما في قوله وفساد الدعوى تفيد القصد نحو ضربي زيدا في الدار على ما نص عليه العلامة التفتازاني في شرح التلخيص . ثم إن قوله وأما أنواعها فشيئان لا يخلو عن سماجة ظاهرة حيث حمل التثنية على الجمع بالمواطأة ( قال ) أي القدوري في مختصره ( المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها ، والمدعى عليه من يجبر على الخصومة ) ورد عليه صاحب الإصلاح والإيضاح [ ص: 154 ] حيث قال في متنه : المدعي من لا يجبر على الخصومة ، وقال في شرحه لم يقل إذا تركها كما قال القدوري ومن تبعه لأنه غير مجبور حالتي الترك والفعل ، والقيد المذكور يوهم الاختصاص انتهى .

أقول : فيه بحث إذ على تقدير ترك قيل الترك يلزم أن ينتقض تعريف المدعي بالمدعى عليه حالة الفعل فإنه يصدق عليه في هذه الحالة أنه لا يجبر على الخصومة ضرورة عدم تصور الجبر على الفعل حالة حصوله ، وأما إيهام القيد المذكور الاختصاص فممنوع لاندفاعه بشهادة ضرورة العقل على عدم تصور الجبر حالة الفعل ( ومعرفة الفرق بينهما ) أي بين المدعي والمدعى عليه ( من أهم ما يبتنى عليه مسائل الدعوى ) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } والإنسان قد يكون مدعيا صورة ومع ذلك يكون القول قوله مع يمينه كما في المودع إذا ادعى رد الوديعة على ما ذكر في الكتاب فلا بد من معرفتهما ( وقد اختلفت عبارات المشايخ رحمهم الله فيه ) أي في الفرق بينهما ( فمنها ما قال في الكتاب ) يعني مختصر القدوري ( وهو حد عام صحيح ، وقيل المدعي من لا يستحق إلا بحجة ) وهي البينة أو الإقرار أو النكول على قول من يرى أنه ليس بإقرار كما سيعلم في باب اليمين ( كالخارج ، والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد ) قال صاحب العناية : وهو ليس بعام : أي جامع لعدم تناوله صورة المودع إذا ادعى رد الوديعة انتهى .

أقول : يمكن توضيح كلامه وتقرير مرامه بوجهين : أحدهما أنه يقبل في تلك الصورة قول المودع مع يمينه كما سيجيء في الكتاب فلا يصدق عليه أنه لا يستحق إلا بحجة ، وثانيهما أن المودع في تلك الصورة لا يستحق شيئا ، فلا يصدق عليه أنه يستحق بحجة . ثم أقول : يمكن الجواب عن الوجهين معا أنه سيجيء في الكتاب أن الاعتبار عند الحذاق من أصحابنا للمعاني دون الصور ، فلهذا أن المودع إذا قال رددت الوديعة فالقول مع اليمين ، وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان فيجوز أن يكون مدار التعريف المذكور على المعنى المعتبر دون الصورة ، فحينئذ لا ضير في عدم تناول تعريف المدعي صورة المودع إذا ادعى رد الوديعة لعدم كونه مدعيا حقيقة أو معنى . ويمكن جواب آخر عن الوجه الأول بأن المودع من حيث إنه مدع رد الوديعة لا يستحق إلا بحجة ، وأما استحقاقه بقوله فإنما هو من حيث إنه مدعى عليه ، وبالجملة قيد الحيثية معتبر .

وقال صاحب العناية بعد قوله المذكور : ولعله غير صحيح لأن المدعى عليه من يدفع استحقاق غيره انتهى . أقول : ويمكن الجواب عن هذا أيضا بأن دفع استحقاق غيره لا ينافي استحقاق نفسه ، بل يقتضيه بناء على أن الحقوق لا تتحقق بدون المستحق ، فكون المدعى عليه من يدفع استحقاق غيره لا ينافي صحة تعريفه بمن يكون مستحقا بقوله ، وعن هذا قال صاحب الكافي وصاحب الكفاية في بيان تعريف المدعى عليه بمن يكون مستحقا بقوله من غير حجة ، فإنه إذا قال هو لي كان مستحقا له ما لم يثبت الغير استحقاقه . فإن قلت : صيغة الفعل تفيد التجدد والحدوث على ما تقرر في علم العربية فيكون معنى [ ص: 155 ] من يكون مستحقا بقوله من يتجدد ويحدث استحقاقه بقوله مع أن استحقاق المدعى عليه لا يتجدد ولا يحدث بقوله بل يكون باقيا على ما كان عليه قبل الدعوى .

قلت : هذه مناقشة لفظية يمكن دفعها أيضا بأن يقال : المراد بمن يكون مستحقا بقوله من يكون ثابتا على الاستحقاق بقوله على أن يكون مستحقا مجازا ثابتا على الاستحقاق بقرينة قوله كذي اليد ، ونظير هذا ما ذكره المفسرون في قوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم } من أن معناه ثبتنا على هدى الصراط المستقيم ; فالذي يلزم حينئذ من صيغة الفعل في تعريف المدعى عليه بما ذكر أن يتجدد الثبات على الاستحقاق لا أن يتجدد نفس الاستحقاق ولا محذور فيه . وأجاب بعض الفضلاء عما ذكره صاحب العناية بوجه آخر حيث قال : قد مر في الدرس السابق أن لدوام الأمور المستمرة الغير اللازمة حكم الابتداء ، مع أن في العدول من أن يقول من يستحق بقوله إلى قوله من يكون مستحقا بقوله إيماء إلى دفع هذا الكلام ; لأن معناه من يكون استحقاقه دائما لدلالة الاسم على الدوام والثبات ا هـ .

أقول : في كل من شقي جوابه نظر : أما في شقه الأول فلأنا سلمنا أن لدوام التصرفات الغير اللازمة حكم الابتداء على ما مر في أوائل الباب السابق ، ولكن لا نسلم أن ما نحن فيه من ذلك القبيل فتأمل . وأما في شقه الثاني لا يذهب على من له دربة بالعلوم الأدبية أنه لا فرق بين أن يقول من يستحق بقوله وبين قوله من يكون مستحقا بقوله في إفادة التجدد والحدوث ، لأن صلة من في كل واحد منهما جملة فعلية فتدل على التجدد والحدوث قطعا ، وكون الخبر اسما في الثانية مما لا مدخل له في إفادة الدوام والثبات أصلا ، على أن الثقات من محققي النحاة كالرضي وأضرابه صرحوا بأن ثبوت خبر باب كان مقترن بالزمان الذي يدل عليه صيغة الفعل الناقص ، إما ماضيا أو حالا أو استقبالا ، فكان للماضي ويكون للحال والاستقبال وكن للاستقبال . وقال الفاضل الرضي : وذهب بعضهم إلى أن كان يدل على استمرار مضمون الخبر في جميع الزمن الماضي ، وشبهته قوله تعالى { وكان الله سميعا بصيرا } وذهل أن الاستمرار مستفاد من قرينة وجوب كون الله سميعا بصيرا لا من لفظ كان ; ألا يرى أنه يجوز كان زيد نائما فاستيقظ ، وكان قياس ما قال أن يكون كن ويكون للاستمرار أيضا .

وقول المصنف فكان تكون ناقصة لثبوت خبرها دائما أو منقطعا رد على ذلك القائل يعني أنه يجيء دائما كما في الآية ، ومنقطعا كما في قولك كان زيد قائما ، ولم يدل لفظ كان على أحد الأمرين بل ذلك إلى القرينة ، إلى هنا كلامه . فقد تقرر من هذا أنه لا دوام في مضمون خبر كان عند المحققين ، وإنما ذهب إليه البعض ذهولا . وأما الدوام في خبر يكون الذي كلامنا فيه فمما لم يذهب إليه أحد قط ، فما ذكره ذلك المجيب خارج عن قواعد العربية بالكلية ، نعم لو كان المذكور في التعريف من هو مستحق بقوله بالجملة الاسمية لتم الفرق وليس فليس ( وقيل المدعي من يتمسك بغير الظاهر والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر ) قال صاحب العناية : ولعله منقوض بالمودع فإنه مدعى عليه ، وليس بمتمسك بالظاهر إذ رد الوديعة ليس بظاهر ; لأن الفراغ ليس بأصل بعد الاشتغال ، ولهذا قلنا : إذا ادعى المديون براءة ذمته بدفع الدين إلى وكيل رب المال وهو ينكر الوكالة فالقول لرب المال لأن المديون يدعي براءة بعد الشغل فكانت عارضة ، والشغل أصل ، ويجوز أن يورد بالعكس بأنه مدع ويتمسك بالظاهر وهو عدم الضمان ا هـ .

أقول : فيه بحث ، إذ لا نسلم أن المودع من حيث هو مدعى عليه [ ص: 156 ] ليس هو بمتمسك بالظاهر . قوله إذ رد الوديعة ليس بظاهر . قلنا : مسلم لكن لا نسلم تمسكه به من حيث هو مدعى عليه ، بل هو من هذه الحيثية متمسك بعدم الضمان وهو الظاهر ، وكذا لا نسلم أنه من حيث هو مدع يتمسك بالظاهر بل هو من هذه الحيثية ملتمس غير الظاهر وهو رد الوديعة .

والحاصل أن صاحب العناية زعم حيثية كون المودع مدعيا حيثية كونه مدعى عليه وبالعكس فأورد النقض على تعريفهما ، وليس الأمر كما زعمه ، كيف ولو تم ما زعمه لو رد النقض بالمودع إذا ادعى رد الوديعة على التعريف الأول أيضا بأنه مدع رد الوديعة ويجبر على الخصومة مع أنهم اتفقوا على أنه حد عام صحيح .

ثم إن ما ذكرناه كله على تسليم اعتبار جانب الصورة أيضا فيما إذا ادعى المودع رد الوديعة ، وأما على تقدير إن كان المعتبر هو جانب المعنى دون جانب الصورة كما ذكرناه من قبل وسيجيء في الكتاب فلا يتوجه النقض بالعكس أصلا . واعترض بعض العلماء على بعض مقدمات ما ذكره صاحب العناية هاهنا حيث قال : فيه كلام ، وهو أن في صورة الوديعة ليس في ذمة المودع شيء من المال حتى يكون دعوى الرد منه دعوى البراءة بعد الشغل ، بل إنما هي مجرد إنكار الضمان وثبوت الشيء في ذمته ، بخلاف صورة الدين ، وأشير إلى هذا في الكافي ا هـ . أقول : نعم قد أشير إليه ، بل صرح به في الكافي وعامة الشروح .

والظاهر أن صاحب العناية رآه واطلع عليه ولكن بعد ذلك له أن يقول سلمنا أن في صورة الوديعة ليس في ذمة المودع شيء من المال ، ولكن في عهدته حفظ مال الوديعة ، إذ قد تقرر في كتاب الوديعة أنها عقد استحفاظ ، وأن حكمها وجوب الحفظ على المودع فكان دعوى الرد منه دعوى البراءة بعد اشتغال ذمته بالحفظ ، والفراغ ليس بأصل بعد الاشتغال فيتمشى كلامه ، ويتم مرامه وأما قوله ولهذا قلنا إذا ادعى المديون براءة ذمته بدفع الدين إلخ ، فيجوز أن يكون مبنيا على مجرد الاشتراك بين المسألتين في كون الفراغ ليس بأصل بعد الاشتغال ، وإن كانتا مختلفتين بكون الاشتغال في إحداهما بالمال وفي الأخرى بالحفظ ، فالذي يقطع عرق إيراد صاحب العناية هاهنا ما قدمناه لا غير ( وقال محمد رحمه الله : في الأصل المدعى عليه هو المنكر ، وهذا صحيح ) لما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم { واليمين على من أنكر } وروي { اليمين على المدعى عليه } ( لكن الشأن في معرفته ) أي معرفة المنكر ( والترجيح بالفقه ) أي بالمعنى دون الصورة ( عند الحذاق من أصحابنا رحمهم الله لأن الاعتبار للمعاني دون الصور فإن المودع إذا قال رددت الوديعة فالقول له مع اليمين وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان ) تعليل لقوله فالقول له مع اليمين .

قال صاحب العناية : يعني إذا تعارض الجهتان في صورة فالترجيح لإحداهما على الأخرى يكون بالفقه : أي باعتبار المعنى دون الصورة ، فإن المودع إذا قال رددت الوديعة فهو يدعي الرد صورة ، فلو أقام على ذلك بينة قبلت ، والقول له مع يمينه أيضا فكان مدعى عليه ، فإذا أقام البينة اعتبر الصورة ، وإذا عجز عنها اعتبر معناها ، فإنه ينكر الضمان والقول قول المنكر مع يمينه ا هـ . أقول : شرح هذا المقام بهذا الوجه لا يكاد يصح . أما أولا فلأنه غير مطابق للمشروح لأن قول المصنف والترجيح [ ص: 157 ] بالفقه عند الحذاق من أصحابنا رحمهم الله ; لأن الاعتبار للمعاني دون الصور صريح في أن المعتبر هو المعاني لا غير ، وقول صاحب العناية : فإذا أقام البينة اعتبر الصورة وإذا عجز عنها اعتبر معناه مخالف له لأنه صريح في أن الصورة أيضا معتبرة فيصير هذا من قبيل العمل بالجهتين لا من قبيل ترجيح إحداهما على الأخرى .

وأما ثانيا فلأن أول هذا الشرح مخالف لآخره ، فإن قوله في الأول إذا تعارض الجهتان في صورة فالترجيح لإحداهما على الأخرى يكون بالفقه : أي باعتبار المعنى دون الصورة ، صريح في أن المعتبر جهة المعنى دون جهة الصورة ، وقوله في الآخر فإذا أقام البينة اعتبر الصورة وإذا عجز عنها اعتبر معناها ، صريح في أن كلتا الجهتين معتبرتان . ثم إن بعض الفضلاء قصد توجيه كلام صاحب العناية هاهنا وتبيين مرامه فقال : المراد بالجهتين الإنكار الصوري والإنكار المعنوي لا الادعاء الصوري والإنكار المعنوي على ما يتوهم من ظاهر كلامه ، فإن كلا منهما معتبر حيث تقبل بينة الرد أيضا فلا يظهر ترجيح المعنوي ا هـ .

أقول : هذا أيضا غير صحيح . أما أولا فلأن الشرح لا يطابق المشروح حينئذ أيضا ، فإن قول المصنف لأن الاعتبار للمعاني دون الصور فإن المودع إذا قال رددت الوديعة فالقول له مع اليمين ، وإن كان مدعيا للرد صورة يدل قطعا على أن المراد بالصورة هاهنا الادعاء الصوري حيث جعل الصورة قيدا للادعاء في قوله وإن كان مدعيا للرد صورة . وأما الثانية فلأنه لا معنى للتعارض بين الإنكار الصوري والإنكار المعنوي ; لأنه إما أن يراد بالتعارض هاهنا مجرد التخالف في الحقيقة أو التنافي في الصدق ، وكلاهما غير متحقق بين الإنكار الصوري والإنكار المعنوي . أما عدم تحقق الأول بينهما فظاهر ، وأما عدم تحقق الثاني بينهما فلأن المنكر المعنوي فيما إذا قال المودع رددت الوديعة هو المودع بالفتح حيث ينكر الضمان ، والمنكر الصوري هو المودع بالكسر حيث ينكر الرد ، ولا تنافي بين إنكاريهما في الصدق لجواز أن يصدقا معا بأن لا يرد المودع الوديعة ولا يجب الضمان عليه لهلاك الوديعة في يده من غير تعد منه ، فإذا لم يتحقق شيء من معنى التعارض بينهما فكيف يصح أن يحمل عليه الجهتان في قوله : يعني إذا تعارض الجهتان .

وأيضا إنما يتصور التعارض بين الشيئين عند اجتماعهما في محل واحد ، ومحل الإنكار الصوري مغاير لمحل الإنكار المعنوي فيما نحن فيه لقيام أحدهما بالمودع بالكسر والآخر بالمودع بالفتح فلا يتصور التعارض بينهما ، بخلاف الادعاء الصوري والإنكار المعنوي فإنه يتحقق بينهما التعارض بالمعنى الأول قطعا ، ومحلهما واحد وهو المودع بالفتح فكان موقعا للتعارض ونعم ما قيل ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر ثم إن الحق عندي أن يشرح هذا المقام على ما تقتضيه عبارة المصنف ، وهو أنه إذا تعارضت الجهتان : أي جهة الادعاء الصوري وجهة الإنكار المعنوي فالترجيح بالفقه : أي بالمعنى عند الحذاق من أصحابنا ، فإن الاعتبار للمعاني دون الصور ، فإن المودع إذا قال رددت الوديعة فالقول له مع يمينه بناء على أنه ينكر الضمان معنى ولا يعتبر كونه مدعيا للرد صورة ، وأن يقال في وجه قبول بينة المودع في تلك الصورة : إنما تقبل بينة المودع إذا أقامها على الرد لدفع اليمين عنه ، فإن البينة قد تقبل لدفع اليمين على ما صرحوا به في مواضع شتى من كتب الفقه ، منها ما ذكره صدر الشريعة في شرح الوقاية في مسألة اختلاف الزوجين في قدر المهر حيث قال : إن المرأة تدعي الزيادة ، فإن أقامت بينة قبلت ، وإن أقام الزوج تقبل أيضا لأن البينة تقبل لدفع اليمين كما إذا أقام المودع بينة على رد الوديعة على المالك تقبل ا هـ .

فحينئذ يتضح المراد ويرتفع الفساد




الخدمات العلمية