الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى.. وغزوة بدر - بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة - تقوم معلما ضخما في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقدسمى الله - سبحانه - يومها يوم الفرقان يوم التقى الجمعان .. كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك لا في هذه الأرض وحدها ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال سبحانه: هذان خصمان اختصموا في ربهم: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار، يصب من فوق رءوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود. ولهم مقامع من حديد. كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها، وذوقوا عذاب الحريق.. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير. وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد.. .. (الحج: 19 - 24) وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر.. يوم الفرقان.. لا في الدنيا وحدها، ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل.. وتكفي هذه الشهادة من الجليل - سبحانه - لتصوير ذلك اليوم وتقديره..

                                                                                                                                                                                                                                      وسنعرف شيئا من قيمة هذا اليوم، حين نستعرض الوقعة وملابساتها ونتائجها..

                                                                                                                                                                                                                                      ومع كل عظمة هذه الغزوة، فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها وحين نراها حلقة من حلقات " الجهاد في الإسلام " ، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه. كذلك نحن لا ندرك طبيعة " الجهاد في الإسلام " وبواعثه وأهدافه، قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في " زاد المعاد " ، في الفصل الذي عقده باسم: " فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه: يا أيها المدثر. قم فأنذر فنبأه بقوله: اقرأ وأرسله بـ يا أيها المدثر . ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين.

                                                                                                                                                                                                                                      فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأهل حرب. وأهل ذمة.. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده..

                                                                                                                                                                                                                                      ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم. فجاهد الكفار بالسيف [ ص: 1432 ] والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم.. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم..

                                                                                                                                                                                                                                      فقتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له، عهد مطلق، أربعة أشهر. وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية.. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب.. وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله وأن يجاهدهم بالعلم والحجة وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم.. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين " ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلا. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة:

                                                                                                                                                                                                                                      السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين.. فهو حركة تواجه واقعا بشريا.. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي.. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل.. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء..

                                                                                                                                                                                                                                      والسمة الثانية في منهج هذا الدين.. هي الواقعية الحركية. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون - وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلا بتخليته عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة.. بعد تحطيم [ ص: 1433 ] الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها..

                                                                                                                                                                                                                                      والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشا، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد.. هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد.. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة ذات مراحل محددة لكل مرحلة وسائلها المتجددة.

                                                                                                                                                                                                                                      على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.

                                                                                                                                                                                                                                      والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " . وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه! والمهزومون روحيا وعقليا ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ليدفعوا عن الإسلام هذا " الاتهام! " ..

                                                                                                                                                                                                                                      يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله.. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما.. ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: " الحرب الدفاعية " .. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة " الإسلام " ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات..

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا الدين إعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضا وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين.. إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. أو بتعبير آخر مرادف:

                                                                                                                                                                                                                                      الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون الله.. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد.. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض..

                                                                                                                                                                                                                                      أو بالتعبير القرآني الكريم:

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه.. ذلك الدين القيم.. .. [ ص: 1434 ] قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال في ما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس!!! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر. وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية.. كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان.

                                                                                                                                                                                                                                      لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان. وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال! إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلانا نظريا فلسفيا سلبيا.. إنما كان إعلانا حركيا واقعيا إيجابيا.. إعلانا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " .. ذلك ليواجه " الواقع " البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.

                                                                                                                                                                                                                                      والواقع الإنساني، أمس واليوم وغدا، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلانا عاما لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية. وعقبات مادية واقعية.. عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة.. وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية