الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون ) في اتصال الكلام وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : متصل بقوله تعالى : ( فذرهم ) [ الطور : 45] وذلك لأنه يدل على عدم جواز القتال ، وقد قيل إنه نازل قبل شرع القتال ، وحينئذ كأنه قال فذرهم ولا تذرهم مطلقا من غير قتال ، بل لهم قبل يوم القيامة عذاب يوم بدر حيث تؤمر بقتالهم ، فيكون بيانا وعدا ينسخ فذرهم بالعذاب يوم بدر .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيهما : هو متصل بقوله تعالى : ( لا يغني ) وذلك لأنه لما بين أن كيدهم لا يغني عنهم قال ولا يقتصر على عدم الإغناء بل لهم مع أن كيدهم لا يغني ويل آخر وهو العذاب المعد لهم ، ولو قال لا يغني عنهم كيدهم كان يوهم أنه لا ينفع ، ولكن لا يضر ، ولما قال مع ذلك ( وإن للذين ظلموا عذابا ) زال ذلك ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الذين ظلموا هم أهل مكة إن قلنا العذاب هو عذاب يوم بدر ، وإن قلنا العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ما المراد من الظلم هاهنا ؟ نقول فيه وجوه:

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هو كيدهم نبيهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : عبادتهم الأوثان .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : كفرهم وهذا مناسب للوجه الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : " دون ذلك " ، على قول أكثر المفسرين معناه ( قبل ) ويؤيده قوله تعالى : ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ) [ السجدة : 21] ويحتمل وجهين آخرين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : دون ذلك ، أي أقل من ذلك في الدوام والشدة ، يقال الضرب دون القتل في الإيلام ، ولا شك أن عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة [ ص: 236 ] على هذا المعنى ، وعلى هذا ففيه فائدة التنبيه على عذاب الآخرة العظيم ، وذلك لأنه إذا قال عذابا دون ذلك أي قتلا وعذابا في القبر فيتفكر المتفكر ويقول ما يكون القتل دونه لا يكون إلا عظيما ، فإن قيل فهذا المعنى لا يمكن أن يقال في قوله تعالى : ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ) قلنا نسلم ذلك ولكن لا مانع من أن يكون المراد هاهنا هذا الثاني على طريقة قول القائل : تحت لجاجك مفاسد ودون غرضك متاعب ، وبيانه هو أنهم لما عبدوا غير الله ظلموا أنفسهم حيث وضعوها في غير موضعها الذي خلقت له ، فقيل لهم إن لكم دون ذلك الظلم عذابا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ذلك إشارة إلى ماذا ؟ نقول الظاهر أنه إشارة إلى اليوم ، وفيه وجهان آخران :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : في قوله يصعقون ، وقوله ( يغني عنهم ) إشارة إلى عذاب واقع ، فقوله ( ذلك ) إشارة إليه ، ويمكن أن يقال قد تقدم قوله ( إن عذاب ربك لواقع ) [ الطور : 7] وقوله دون ذلك ، أي دون ذلك العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيهما : دون ذلك ، أي كيدهم فذلك إشارة إلى الكيد ، وقد بينا وجهه في المثال الذي مثلنا وهو قول القائل : تحت لجاجك حرمانك ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ذكرنا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه جرى على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر كما قال تعالى : ( أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 41] ثم إن الله تعالى تكلم على تلك العادة ليعلم أن الله استحسنها من المتكلم حيث يكون ذلك بعيدا عن الخلف .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : منهم من آمن فلم يكن ممن لا يعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : هم في أكثر الأحوال لم يعلموا وفي بعض الأحوال علموا وأقله أنهم علموا حال الكشف وإن لم ينفعهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : مفعول "لا يعلمون" جاز أن يكون هو ما تقدم من الأمر : وهو أن لهم عذابا دون ذلك ، وجاز أن لا يكون له مفعول أصلا ، فيكون المراد أكثرهم غافلون جاهلون .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية